أليس للنصارى الحق في الإيمان بالصلب وقد شاهدوه عيانا ؟
هناك سؤال يشغل بالي ولم أجد له جواباً ، حيث نجد في القرآن الكريم أنّ عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، ولكن شبه للنصارى مقتله وصلبه ، مما يعني أنه من الطبيعي أن يعتقد النصارى بمسألة موت المسيح وصلبه ، بل ولهم الحق في اعتقاد ذلك بما أنّ هذا الاعتقاد جاء نتيجة المشاهدة الحسية التي تناقلوها فيما بينهم . فلماذا جعلهم الله يرون ويعتقدون شيئاً ليس صحيحاً ، وكيف يمكن لهم أن يؤمنوا بشيء يخالف ما رأوه بعينهم ؟
ملخص الجواب:
وخلاصة الجواب :
أن النصارى يعذرون في اعتقادهم قتل وصلب المسيح ، وذلك قبل بعثة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم ، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وقيام الأدلة والمعجزات على
صدقه ونبوته ، فلا عذر لمن قامت عليه الحجة وبلغه الإسلام والقرآن أن يخالف شيئا
مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .
الجواب
الحمد لله.
لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الحكم على النصارى الأولين ( أي : قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) لم يرد الحكم عليهم بالكفر من أجل اعتقادهم أن المسيح عليه السلام قد قتل وصلب ، بل كفَّرهم الله عز وجل لأنهم جعلوا المسيح إلها ، ولأنهم جعلوا الآلهة ثلاثة : الآب والابن والروح القدس .
قال الله تعالى : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) المائدة/72، 73.
ولم يرد في القرآن الكريم : ( لقد كفر الذين قالوا إن المسيح قد قتل وصلب !!) .
وسبب ذلك : أن الله ألقى شبه عيسى على رجل آخر فقتله أعداؤه وهم يظنون أنه المسيح ، ولم يكن أحد من أتباع المسيح وحواريه موجودا في ذلك المكان حتى يتحقق من الشخص المصلوب إلا بعض النساء وقفن من بعيد ينظرن ، ثم انتشر الخبر بقتل المسيح وصلبه ودفنه ، فصدق ذلك كثير من الناس ، حتى من أتباعه ، إذ لم يكن عندهم من العلم ما يبطل ذلك ، والمسيح باعتباره بشرا لا يمتنع عليه أن يقتل كما قتل اليهود قبله غيره من الأنبياء .
فكان ذلك عذرا لمن اعتقد هذا الاعتقاد الخاطئ .
ولهذا فنحن نوافقك الرأي ، أن " من الطبيعي " – على حد تعبيرك – أن يؤمن النصارى ـ ونعني بهم النصارى الأولين قبل مجيء نبينا صلى الله عليه وسلم ـ بالصلب وقتل عيسى عليه السلام.
ولكن بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن ونفيه القاطع قتل المسيح وصلبه ، كان من آمن بقتل المسيح وصلبه بعد ذلك كافرا ، لأنه مكذب لخبر الله الذي قامت الأدلة القطعية والمعجزات على أنه كلام الله حقيقة ، وليس كلام أحد من البشر .
فمن آمن من أتباع المسيح – قبل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم – بالمسيح نبينا ورسولا وليس إلها أو ابنا للإله ، واتبع تعاليمه ، غير أنه أخطأ فاعتقد أنه قتل وصلب : كان ذلك الشخص مؤمنا موحدا ، معذورا في ذلك الاعتقاد الخاطئ .
قال ابن تيمية رحمه الله :
" إذا قيل إن الحواريين ، أو بعضهم ، أو كثيرا من أهل الكتاب ، أو أكثرهم ، كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب ، كانوا مخطئين في ذلك ، ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ، ولا يوجب لهم النار ؛ فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح " انتهى من " الجواب الصحيح " (2/302) .
لكن ذلك العذر قد انقطع بمجيء الخبر الصادق من رب العالمين ، في كتابه : أن اليهود الملاعين قد شبه الأمر لهم ، وأن الله جل جلاله لم يسلطهم على نبي الله عيسى ، على وجه الحقيقة ، ولم يمكنهم من قتله ، ولا صلبه ؛ فحينئذ ، قد انقطع العذر ، بمجيء الخبر الصادق به .
ويقول ابن حزم رحمه الله :
" ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن يفرض إقرارا بصلب المسيح صلى الله عليه وسلم ، ولا بإنكاره ، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه " .
انتهى من " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (1/ 57) .
لكن خبر القرآن الكريم ، إنما ينتفع به من سمعه وبلغه ، على وجه تقوم به الحجة عليه ، وعلى من قامت عليه الحجة بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقه في خبره ورسالته .
ولذلك ، كان المناسب في الحديث هنا دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام ، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا من عند الله تعالى ، والإيمان بالقرآن كلام الله عز وجل ، فمن أسلم لله رب العالمين ، وآمن بنبيه ، وبكتابه الكريم ؛ كان منطقيا سهلا عليه : أن يؤمن بخبر الله عز وجل عن ذلك الأمر : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء/157، 158.
وما المحال فيما ذكره القرآن ! خاصة ونحن نتحدث عن نبي رسول كعيسى عليه السلام ، الذي كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص، وتكلم في المهد ، وكلها معجزات لا تجري على سنن الكون والبشر ، فلماذا نستبعد أن يلقي الله عز وجل شبهه على من حضر واقعة الصلب ! وما المستحيل في مثل هذا الخبر ! والله عز وجل ينصر رسله ويدافع عنهم بلطفه وقدرته ، ليكون له عليه السلام شأن مدخر عنده سبحانه في آخر الزمان ؟!
ولهذا فالمسلم لا يخاطب النصراني ابتداء بقضية الصلب ويناظره فيها إن كانت قد وقعت أم لا، إلا من جهة التباحث التاريخي المحض ، أما من جهة إقامة الحجة الدينية على أحقية دين الإسلام بالاتباع ، وأنه ناسخ لما قبله فالحوار على صعيد " الصليب " ليس بذي جدوى ولا فائدة، وإنما تبدأ الرحلة المعرفية بالتأمل في وحدانية الله سبحانه ، ثم بنبوة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن رد هذين الركنين فهو لما سواها أشد تكذيبا ، وأحرص على الرد والتكذيب ، ومن آمن بهما فهو أحرص على الإيمان بعقيدة القرآن عن الصلب .
وإذا آمن بكلام الله ، سيبدأ حينها هذا المسلم بإعادة البحث التاريخي في حادثة الصلب ، في ضوء النفي الجازم للقرآن الكريم : أن يكون المسيح عليه السلام قد قتل أو صلب على يد أعدائه.
وسيكتشف أن الحديث عن " المشاهدة الحسية " – كما ذكرت في السؤال - محل بحث ونظر ، فلا يملك أحد نصوصا تاريخية تؤكد تواتر أو تكاثر " المشاهدات الحسية للصلب "، ولا نملك ما يؤكد شهادات أعيان على حادثة الصلب ، فالقرآن يؤكد أنه شبه للمتآمرين عليه ، ولم يتطرق لشهود عيان محايدين أو من أتباع المسيح عليه السلام شبه لهم صلبه ، والإنجيل المطبوع اليوم لا يذكر سوى شهادة بضعة نساء رأين المشهد عن بعد ، وليس عن قرب ، فلا يستبعد أن يشبه الأمر لهن ، ومثل هذه الشهادة البعيدة لا تبلغ حد التواتر الذي يظنه بعض الناس .
يقول الإمام السرخسي رحمه الله :
" وما استدلوا به من نقل النصارى واليهود قتل المسيح وصلبه فهو وهم ؛ لأن النقل المتواتر لم يوجد في ذلك .
فإن النصارى إنما نقلوا ذلك عن أربعة نفر ، كانوا مع المسيح في بيت ، إذ الحواريون كانوا قد اختفوا ، أو تفرقوا ، حين هَمَّ اليهود بقتلهم .....
واليهود إنما نقلوا ذلك عن سبعة نفر كانوا دخلوا البيت الذي كان فيه المسيح ، وأولئك يتحقق منهم التواطؤ على الكذب ، وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح حقيقة حتى دلهم عليه رجل يقال له يهوذا ، وكان يصحبه قبل ذلك ... وبمثل هذا لا يحصل ما هو حد التواتر .
فإن قيل :
الصلب قد شاهده الجماعة التي لا يتصور منهم التواطؤ على الكذب عادة ، فيتحقق ما هو حد التواتر في الإخبار بصلبه ؟
قلنا :
لا ، كذلك ، فإن فعل الصلب إنما تناوشوه عدد قليل من الناس ، ثم سائر الناس يعتمدون خبرهم أن المصلوب فلان ، وينظرون إليه من بعد ، من غير تأمل فيه ، ففي الطباع نفرة عن التأمل في المصلوب .. والثاني : أن النقل المتواتر منهم في قتل رجل علموه عيسى وصلبه ، وهذا النقل موجب علم اليقين فيما نقلوه .
ولكن لم يكن الرجل عيسى ، وإنما كان مشبها به ، كما قال تعالى : ( ولكن شبه لهم ) وقد جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه : من يريد منكم أن يلقي الله شبهي عليه فيقتل وله الجنة . فقال رجل : أنا . فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه فقتل ، ورفع عيسى إلى السماء " انتهى من " أصول السرخسي " (1/ 285-286) .
ولم نطل في هذا الجواب اكتفاء بما سبق ذكره في الموضوع ذاته في الفتوى رقم : (224199) ، : (225709)