الحمد لله.
وهذا الحديث ، وما يشبهه ، ليس فيه أن الملائكة يسمعون تلاوة العبد ، وهم في السماء ، بل فيه أن الملائكة نزلوا ، حتى كانوا مثل الظلة ، وهو ما يستظل به الإنسان ، وهو يدل على أنهم صاروا قريبين منه جدا ، بحيث يسمعونه سماعا ، لا إشكال فيه ، ولا استبعاد له ، حتى لو كان من بشر ، في مثل مسافتهم ؛ فكيف إذا كانوا ملائكة الله .
ومن الملائكة من ينزل من
السماء ، يغشى الناس في مجالسهم ، يلتمسون حلق الذكر ، ومجالس العلم .
عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
: ( إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ
الذِّكْرِ ، فإذا وَجَدُوا قَوْمَاً يَذْكُرُونَ اللهَ - عز وجل - ، تَنَادَوْا :
هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا ، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أعْلَم - : مَا يقولُ عِبَادي ؟
قَالَ : يقولون : يُسَبِّحُونَكَ ، ويُكبِّرُونَكَ ، وَيَحْمَدُونَكَ ،
ويُمَجِّدُونَكَ ، فيقول : هَلْ رَأَوْنِي ؟ فيقولونَ : لا واللهِ مَا رَأَوْكَ .
فيقولُ : كَيْفَ لَوْ رَأوْني ؟! قَالَ : يقُولُونَ : لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ
لَكَ عِبَادَةً ، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيداً ، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً ، فَيقُولُ
: فماذا يَسْألونَ ؟ قَالَ : يقُولُونَ : يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ ، قَالَ : يقولُ :
وَهل رَأَوْها ؟ قَالَ : يقولون : لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا . قَالَ :
يقول : فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا ؟ قَالَ : يقولون : لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا
أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً ، وأشدَّ لَهَا طَلَباً ، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً ،
قَالَ : فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ قَالَ : يقولون : يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ ؛
قَالَ : فيقولُ : وَهَلْ رَأوْهَا ؟ قَالَ : يقولون : لا واللهِ مَا رَأوْهَا ،
فيقولُ : كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا ؟! قَالَ : يقولون : لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ
مِنْهَا فِرَاراً ، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً . قَالَ : فيقولُ : فَأُشْهِدُكُمْ
أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم ، قَالَ : يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ : فِيهم
فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ ، قَالَ : هُمُ الجُلَسَاءُ لا
يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) . متفق عَلَيْهِ .
وعنه وعن أَبي سعيدٍ رضي الله عنهما ، قالا : قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه
وسلم - : ( لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ - عز وجل - إِلاَّ حَفَّتْهُمُ
المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ؛
وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ) رواه مسلم .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، معلومة .
وفي هذا كله : ما يدل على أنهم ينزلون من السماء ، يستمعون لمجالس الذكر والتلاوة .
والملائكة من عالم الغيب فلا يمكن القطع بكيفية سماعهم هذا ، فالله تعالى – يسمعهم الصوت من غير أن نعلم كيفيته -، ويشبه هذا علم الملائكة بما ينويه الإنسان من خير أو شر .
وإذا افترضنا أنهم يسمعون
قراءة الناس ، وهم في السماء ؛ فليس هذا بأعجب من علمهم بما يهم العبد به ،
فيكتبونه ، بأمر الله لهم بذلك .
فيقال هنا أيضا : إن الله قادر على أن يسمع الملائكة ما يقوله العبد كيف يشاء .
وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله :
" عن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة
.... ) الحديث . فإذا كان الهم سرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه ؟
فأجاب : "الحمد لله ، قد روي عن سفيان بن عيينة فى جواب هذه المسألة قال : " إنه
إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة ، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة " .
والتحقيق : أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما فى نفس العبد كيف شاء " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (4 / 253) .
ثانيا :
هناك فرق بين السماع الذي يثبته المشركون لمعبوداتهم ، وبين سماع الملائكة هذا :
الفرق الأول : أنه ، إذا افترضنا أن النص الشرعي يدل على هذا السماع ، فيكون سماع
الملائكة ـ حينئذ ـ قد أثبته النص الشرعي ، أمّا السماع الذي يدعيه المشركون
لمعبوداتهم من الغائبين والموتى ، فهو سماع نفاه الشرع والحس ، بل هو قول على الله
بغير علم .
الفرق الثاني : سماع الملائكة هو تصرف من تصرفات الله تعالى في هذا الكون ، فإثباته
إثبات لكمال ربوبية الله تعالى وألوهيته ، لأن الذي أسمعهم ذلك هو الله ، وتنزلت
الملائكة لاستماع القرآن والذكر بأمر الله .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،
قَالَ : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ :
(أَلاَ تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا ؟ ) ، قَالَ : فَنَزَلَتْ : ( وَمَا
نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ، لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا
)" سورة مريم /64 ، رواه البخاري (3218) .
أما السماع الذي يدّعيه المشركون لمعبوداتهم : فهو سماع شركي ، لأنهم ينسبون لهم ،
بناء على هذا السماع ، بعض التصرفات التي هي خاصة بالله تعالى ، لا يشاركه فيها أحد
من خلقه ، من العطاء والمنع ، والخفض والرفع ، وغفران الذنوب ، وكشف الكروب ، ونحو
ذلك .
والغائب والميت ، حتى لو فرضنا ـ جدلا ـ أنه يسمع من يناديه ، فهو لا يملك إجابته ،
لأن هذا من خصائص الربوبية .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن
قِطْمِيرٍ ، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) فاطر /13 – 14 .
والله أعلم .