هل إصابة العبد بالوسوسة والقلق والاكتئاب تعني عدم دخول الإيمان في قلبه ؟
أنا انسان مسلم ومؤمن وموحد أعاني من الوسواس، والقلق، والاكتئاب، فهل هذا يعني عدم دخول الإيمان إلى قلبي ؟
وما تفسير قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) الأنعام/ 125 ؟
الجواب
الحمد لله.
إصابة الإنسان بالوسواس لا تعني عدم دخول الإيمان في قلبه ؛ فقد كانت الوساوس تعرض
لبعض الصحابة رضي الله عنهم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : “ جاء أناس من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنّا
نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، فقال : ( أو قد وجدتموه؟) ، قالوا :
نعم , قال : ( ذاك صريح الإيمان) " رواه مسلم (132).
وفي الصحيحين عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يأتي الشيطان أحدكم
فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله
ولينته ).
رواه البخاري ( 3276 ) ، ومسلم ( 134 ) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي
نَفْسِهِ الشَّيْءَ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اللَّهُ أَكْبَرُ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)
" رواه أبو داود (5112) وصححه الألباني .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان : " والمؤمن يبتلى بوساوس
الشيطان ، بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره . كما قالت الصحابة : يا رسول الله إن
أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال
( ذاك صريح الإيمان ). وفي رواية ما يتعاظم أن يتكلم به. قال : ( الحمد الله الذي
رد كيده إلى الوسوسة). أي حصول هذا الوسواس ، مع هذه الكراهة العظيمة له, ودفعه عن
القلوب هو من صريح الإيمان, كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه, فهذا عظيم
الجهاد ..." .
إلى أن قال : " ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعُبَّاد من الوساوس والشبهات ما ليس
عند غيرهم ، لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه ، بل هو مقبل على هواه في
غفلة عن ذكر ربه ، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة ،
فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى " انتهى .
والواجب عليك - أخي الكريم - هو عدم الالتفات إلى هذه الوساوس البتة ، وإذا حصلت
فتجاهلها واعتبرها هُراءً ووهمًا وكلامًا لا قيمة له ، وذلك مع كثرة الاستعاذة
بالله من الشيطان الرجيم ، والإكثار من ذكر الله تعالى ، والدعاء بأن يصرف الله عنك
كيد الشيطان ، وملازمة ذكر الله تعالى ، آناء الليل ، وأطراف النهار ، وفي كل
أحوالك ، والانشغال بما هو نافع من عِلم أو عمل أو عبادة أو نحو ذلك مما يعين على
تجنب هذه الوساوس .
وهناك أمور أخرى تساعد في علاج تلك الوساوس تجدها في جواب السؤال رقم: (21052)
، و(210592).
مع التنبيه إلى أهمية عرض نفسك على طبيب نفسي أخصائي ، إذا زادت الوساوس عليك ،
فالجمع بين العلاجين : الطبي الدوائي ، والمعرفي السلوكي الإيماني ، من شأنه أن
يعينك على تجاوز ذلك ، بإذن الله ، ويعجل شفاءك .
أما إصابتك بالقلق والاكتئاب فلا يعني أيضًا عدم دخول الإيمان في قلبك ، وإنما قد
يكون ذلك من نقص التوكل على الله ، أو ضعف اليقين بما عنده سبحانه ، أو لضعف في
إقبالك على ذكر الله ، وتلاوة القرآن ، فإن ذلك من أعظم أسباب طمأنينة القلب .
وقد سبق الكلام عن علاج القلق والاكتئاب في جواب السؤال رقم: (45847)
، و(21677) فراجعهما.
ثانيا:
أما قوله تعالى : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأنعام/ 125.
فالمقصود من قوله : ( يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ ) هو : الكافر الذي لا يؤمن بالله تعالى ، ودل على ذلك خاتمة الآية
إذ قال : (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) .
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإسْلامِ ) يَقُولُ : يُوَسِّعْ قَلْبَهُ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِهِ .
وقال في قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا
حَرَجًا ) : يَجْعَلُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ضَيِّقًا ، وَالْإِسْلَامُ
وَاسِعٌ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّي : ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) شَاكًّا .
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ : ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ
مَنْفَذٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) بِلَا إِلَهٍ
إِلَّا اللَّهُ ، حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَدْخُلَهُ . كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
انتهى من " تفسير ابن كثير " ت سلامة (3/ 334).
وقال الشيخ ابن باز " فهو سبحانه وتعالى يتصرف في عباده ، فقد يوفق هذا ويشرح قلبه
للإيمان ويهديه للإسلام ، وقد يجعل في قلبه من الحرج والتثاقل عن دين الله ما يحول
بينه وبين الإسلام " انتهى من "فتاوى نور على الدرب"(1/99 ، 100).
والله أعلم.