كيف يمكن تبيين مكانة مريم عليها السلام وأن صلتها بالنساء المسلمات أوثق وأقوى من صلتها بالنساء المسيحيات ؟
الحمد لله.
مريم ابنة عمران رضي الله عنها من النساء الصالحات القانتات العابدات ، ورد ذكرها في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم موصوفة بأوصاف أهل الإيمان ، فهي مؤمنة كاملة الإيمان والتوحيد والطاعة لله ، ومن كان كذلك فالمسلمون أولى به ، كما أنها بريئة من الشرك ومن النصارى الذين يعبدونها ، كما أن ابنها عيسى عليه السلام ، بريء منهم أيضا ، وسيعلن تلك البراءة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة .
ويتضح أولوية المسلمين بها مما يأتي :
أولا :
أن النصارى اتخذوها وابنها إلهين من دون الله ، فعبدوهما من دون الله ، وأهل الإسلام لا يعبدون إلا إلها واحدا، وأهل الإيمان بالله الواحد أولى ببعض ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) المائدة/ 116
وقال تعالى : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) المائدة/ 73
ثانيا :
وصف القرآن مريم بالعبودية والخضوع والطاعة لله رب العالمين، فقال تعالى : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) آل عمران/ 42- 43.
وهذا وصف أهل الإيمان من المسلمين ، قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) البقرة/ 43
وقال تعالى : (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) النساء/ 34
وقال عز وجل : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) التحريم/ 5
ثالثا :
أن أهل الإسلام يوقرون مريم ابنة عمران ، ويؤمنون بما جاء في القرآن الكريم عنها ، من طهارتها ، وزكاتها ، وبراءتها مما رماها به أعداء الله ؛ وأن الله جعلها وابنها آية للعالمين ، شاهدة على وحدانيته وربوبيته وقدرته ، قال تعالى : ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) آل عمران/ 45
وقال عز وجل ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ) النساء/ 155، 156
وقال عز وجل : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) النساء/ 171
وقال سبحانه : ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ) المائدة/ 75
وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) المؤمنون/ 50
رابعا :
أنها وابنها فُرقان بين أهل الإيمان وأهل الشرك ، فمن آمن بهما عبدين لله مطيعين، فهو من أهل الإيمان ، وهذا حال أهل الإسلام ، ومن اعتقد فيهما ، أو في ابنها ، شيئا من مقام الألوهية فهو من أهل الشرك ، وهذا حال النصارى .
وروى البخاري (3435) ومسلم (28) عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)
وروى أحمد (1742) ( أن النجاشي أرسل إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم الذين هاجروا إلى الحبشة، أرسل يسألهم عن المسيح عليه السلام: ما يقولون فيه ؟
قالت أم سلمة رضي الله عنها : فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ قَالُوا : نَقُولُ ـ وَاللَّهِ ـ فِيهِ ، مَا قَالَ اللَّهُ ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا ؛ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ : مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ :
( نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ ) .
قَالَتْ : فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ، ثُمَّ قَالَ : مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ ) صححه الألباني في "صحيح السيرة" .
خامسا :
أنها في أهل الإسلام امرأة مسلمة كاملة ، وهي من أفضل نساء أهل الجنة ، كما روى البخاري (3411) ومسلم (2431) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ)
وروى أحمد (2668) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ) وصححه محققو المسند .
أما عند النصارى: فمعبودة من دون الله .
ولا شك أنها رضي الله عنها وابنها عليه السلام لا يقرون أهل الشرك على اعتقادهم الفاسد فيهما ، وإنما يقرون أهل الإسلام على اعتقادهم ، فكانت هي وابنها أولى بأهل الإسلام من أهل الشرك من النصارى .
وقد أخبرنا الله جل جلاله ، بأن نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام ، سوف يتبرأ يوم القيامة من شرك المشركين به ، وغلوهم فيه وفي أمه ؛ فلنتأمل ذلك الحوار الجليل بين رب العزة والجلال ، وعبده ورسوله عيسى ابن مريم ، عليه السلام . قال الله تعالى :
( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) المائدة/116-120
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (178240)، (220391).