هل ثبت من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص أن ارتفاع البناء في مكة من أشراط الساعة؟
ما صحة هذا الحديث التالي وجزاكم الله خيراً:
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِلِجَامِ دَابَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ:
كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا هَدَمْتُمَ الْبَيْتَ، فَلَمْ تَدَعُوا حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ.
قَالُوا: وَنَحْنُ عَلَى الإِسْلاَم؟
قَالَ: وَأَنْتُمْ عَلَى الإِسْلاَم.
قلت: ثُمَّ مَاذَا؟
قَالَ: ثُمَّ يُبْنَى أَحْسَنَ مَا كَانَ. فَإِذَا رَأَيْت مَكَّةَ قَدْ بُعجَتْ كَظَائِمَ, وَرَأَيْت الْبِنَاءَ يَعْلُو رُؤُوسَ الْجِبَالِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ أَظَلَّك.
الجواب
الحمد لله.
هذا أثر يروى موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص، ولم ينسبه الرواة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمى "حديثا" في الاصطلاح الدقيق الذي استقر عند
المتأخرين، الأمر الذي يقتضي التنويه من البداية ، كي لا يلتبس على أحد من القراء.
ثم نبحث بعد ذلك في ثبوت هذا الكلام أصلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما، بمقتضى قواعد المحدثين، فنقول:
روي هذا الأثر من طرق ثلاثة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وبمعانٍ
متقاربة:
الطريق الأول:
عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قَالَ:
"كُنْتُ آخِذًا بِلِجَامِ دَابَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ:
كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا هَدَمْتُمَ الْبَيْتَ، فَلَمْ تَدَعُوا حَجَرًا عَلَى
حَجَرٍ.
قَالُوا: وَنَحْنُ عَلَى الإِسْلاَم؟
قَالَ: وَأَنْتُمْ عَلَى الإِسْلاَم.
قلت: ثُمَّ مَاذَا؟
قَالَ: ثُمَّ يُبْنَى أَحْسَنَ مَا كَانَ. فَإِذَا رَأَيْت مَكَّةَ قَدْ بُعجَتْ
كَظَائِمَ, وَرَأَيْت الْبِنَاءَ يَعْلُو رُؤُوسَ الْجِبَالِ، فَاعْلَمْ أَنَّ
الأَمْرَ قَدْ أَظَلَّك".
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 461)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في
الفتن" (462) وابن الجعد في "مسنده" (2108)
وهذا إسناد محتمل؛ لأن عطاء العامري، والد يعلى، لم نقف على نص بتوثيقه، وقد نصوا
على أن ابنه يعلى من موالي عبد الله بن عمرو بن العاص، والذي يظهر أن المراد هو
أبوه ، لأن الابن ـ يعلى ـ لم يدرك عبد الله بن عمرو. ومعلوم أن المولى خصيص
بمولاه.
وقد كان شعبة يعتني بالأحاديث التي يسندها يعلى عن أبيه إذا لم يرسلها. كما جاء في
"التاريخ الكبير" للبخاري (6/463) أن شعبة قال: كان يعلى يحدثني عن أبيه فيرسله،
فأقول له: فأبوك عمن؟ قال: أنت لا تأخذ عن أبي !! وأدرك عثمان رضي الله عنه، وأدرك
كذا.
وجاء في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (74/ 196): "قال شعبة وحدّثني يعلى بن عطاء، عن
أبيه: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنه في الجهاد.
قال شعبة: ولم يذكره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، فتهاونت به. فقال: لا تأخذ هذا
عني، عن أبي، وقد ولد أبي لثلاث سنين بقين من خلافة عمر؟!" انتهى.
والحاصل : أن الإسناد محتمل للتحسين والقبول في مثل هذه الأبواب الإخبارية.
الطريق الثاني:
يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال:
"إِذَا رَأَيْتَ الْبِنَاءَ ارْتَفَعَ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ, وَجَرَى الْمَاءُ فِي
الْوَادِي ؛ فَخُذْ حِذْرَكَ"
رواه عبد الرزاق في "التفسير" (3/183)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1/43)، والفاكهي
في "أخبار مكة" (1/339، وأيضا3/42)، ولكنه عند كل من نعيم، والفاكهي عن ابن عمر،
وليس ابن عمرو، والغالب أنه خطأ مطبعي، والصواب: ابن عمرو. بالواو، خاصة وأن
الفاكهي يرويه من طريق عبدالرزاق.
ويزيد بن أبي زياد متفق على ضعف حديثه ، ونكارة كثير منه. ينظر "تهذيب التهذيب"
(11/330). ومع ذلك ، فقد تابعه الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: إذا
ظهرت بيوت مكة على أخاشبها فخذ حذرك.
أخرجه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" (2/ 544)، والربعي في "منتقى من أخبار
الأصمعي" (ص100)
ولكن رواه الأعمش بالعنعنة، ولم يصرح بالسماع، وثمة اختلاف مشهور في سماعه من
مجاهد. يمكن مراجعته في "جامع التحصيل" (ص188-189)
الطريق الثالث:
مسلم بن خالد، عن ابن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه
قال:
"إِذا رَأَيْتُ بُيَوتَهَا، يَعْنِي بِذَلِكَ مَكَّةَ، قَدْ عَلَتْ أَخْشَبَيْهَا،
وَفُجِّرَتْ بُطُونُهَا أَنَّهَارًا، فَقَدْ أَزِفَ الْأَمْرُ".
رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 282)
وابن خثيم هو عبد الله بن عثمان بن خثيم، مختلف في توثيقه وتضعيفه، فوثقه ابن معين
في رواية، وأبو حاتم قال: صالح الحديث، والنسائي في رواية، وابن سعد. وضعفه ابن
معين في رواية، والنسائي في رواية، وعلي بن المديني، وقال ابن حبان: كان يخطئ. ينظر
"تهذيب التهذيب" (5/315)
وكذلك الشأن في الاختلاف في مسلم بن خالد، ترجمته في "تهذيب التهذيب" (10/129)
والذي يظهر : أن تعدد هذه الطرق – رغم ضعفها في مقاييس النقد الصارم - دليل على أن
للأثر أصلا من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأن نفس الناقد تطمئن إلى
صدور هذا الكلام ، أو نحوه ، عنه رضي الله عنه، فالضعف يسير، والمتن ليس بمنكر.
لكن - مع ذلك - لا يؤخذ على محمل المرفوع الثابت من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم، ولا تُضفى عليه صفة العصمة بـ "حكم الرفع" لأسباب ثلاثة:
الأول: ضعف الأسانيد.
الثاني: شهرة عبد الله بن عمرو بن العاص في التحديث عن الإسرائيليات، واختلاط الأمر
على الرواة عنه في كثير من الأحيان، والإسرائيليات مليئة بأخبار آخر الزمان،
وإشارات أحداث النهاية.
الثالث: دخول الاجتهاد والقياس في هذا الباب، وبعبارة أخرى دخول "النظر"
و"الفراسة"، و"استشراف المستقبل" و"التبصر" في أخبار هذا الباب لدى بعض الصحابة
وكثير من التابعين، فعلو البنيان مثبت في أخبار أخرى ثابتة (وَأَنْ تَرَى
الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي
الْبُنْيَانِ) رواه مسلم (رقم/8)، ولذلك ، فلا يبعد أن عبارة عبد الله بن عمرو بن
العاص – في الآثار السابقة – إنما كانت تصرفا في معنى حديث الحفاة العراة، وغيره من
الأحاديث، وتفقها فيها، وتوسعا في توقع تفاصيلها وما تؤول إليه، وليس سماعا منصوصا
مستقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا، فهدم الكعبة، وتفجر الماء وجريانه في جزيرة العرب من أشراط الساعة الواردة
في أحاديث أخرى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ
الحَبَشَةِ) رواه البخاري (1591) ومسلم (2909)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ
مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) رواه مسلم في "صحيحه" (رقم/157)
والله أعلم.