“اللافسادية” هو اعتقاد رومي كاثوليكي وأرثوذكسي ، ينص على أن التدخل الإلهي يسمح بعدم تعرض بعض الأجساد البشرية ـ وخصوصًا القديسين ـ لعملية التحلل بعد الموت كدليل على قدسية هؤلاء الأشخاص ، وقد سمعت وقرأت أن هناك بعض الحالات المشابهة عند المسلمين الذين لم تتحلل جثثهم بعد الموت ، فما صحة ذلك ؟ وما صحة هذه الظاهرة ؟ وهل يؤمن المسلمون بمثل هذا المعتقد؟
الحمد لله.
ظاهرة اللاتحلُّلِيّة التي سألت عنها – وتعني بها عدم تحلل الجثة رغم مرور زمان على موتها – لم ترد في النصوص الإسلامية إلا للرسل والأنبياء فحسب ، وذلك في حديث صحيح عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ قُبِضَ ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ )
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرَمْتَ ؟ – يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ.
قَالَ: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) رواه الإمام أحمد في “المسند” (26/84)
ولم يرد في أدلة الكتاب والسنة ما يفسر وقوع هذه الظاهرة لغير الأنبياء، سواء للشهداء، أو العبّاد الصالحين، أو الأولياء، من الصغار والكبار، أو من الذكور والإناث. لا نملك أي نص نبوي يخبرنا عن تفسير هذا الأمر، وبيان حكمته وأمارته ، إن كان علامة لازمة على صلاح صاحبه ، أو يمكن أن يقع لغير الصالحين ، ولم يطلعنا الله عز وجل في كتابه الكريم على سبب صيانة بعض الجثث عن التحلل والفساد دون الأجساد الأخرى.
أما الرسل والأنبياء فلا يمكن أن تتحلل أجسادهم الشريفة ؛ لأن الله عز وجل حرم على الأرض أن تصيبهم بشيء من آفات الموت ، ولكن هذا لا يعني أن كل من بقيت جثته على حالها ، أنه مثل الرسل والأنبياء تقى وصلاحا ، ليس هذا بالقياس اللازم، ولا بالدليل المؤكد في الإسلام ، فقد تكون ثمة عوامل طبيعية أدت إلى حفظ الجسد عن الفساد ، وغاية ما هنالك أننا نرجو الله تعالى أن يجعل هذه الظاهرة علامة على الصلاح والقبول عند الله سبحانه ، إذا كان صاحب الجثة من أهل الخير والصلاح.
وبه تعلم أن الأمر لا يتجاوز حد الرجاء والدعاء ، فإذا وجدنا في المسلمين من سلمت جثته بعد دفنه سألنا الله تعالى أن يجعلها علامة رحمة وفضل وخير لهذا الميت، ولكننا لم نعتقد ـ ظنا راجحا ولا يقينا جازما ـ أن ذلك دليل على صلاح الميت وتقواه .
ووقوع مثل هذه الظاهرة لغير المسلمين هو على المنوال نفسه:
قد يكون بسبب عوامل طبيعية في الجسد أو التربة أو المكان ، وهذا بحث مهم يمكن أن يجريه العلماء والخبراء، ويتبينوا أسبابه العلمية البحثية ، بدراسة تركيبة التربة ، وأنواع البكتيريا، أو دخول بعض المواد إلى تلك الجثة، كلها أسباب محتملة لصيانتها عن التحلل والتفسخ ، وهذا مبحث مهم ينظر فيه العلماء والباحثون .
وقد يكون وهما مدلسا من قبل بعض المتعصبين ، يظهرون الجسد وكأنه محفوظ من التحلل، وحقيقة الأمر أنه متحلل متهالك ومتفسخ ، ولكنه شاخص بسبب بعض الملابس والحشوات ووجوه الشمع التي تظهر الجثة على حال متماسكة ، بغرض إقناع الناس بصحة دين معين أو مذهب كان يتبعه هذا المتوفى ، فالتركيز على الخطاب العاطفي والتدليس ، بعيدا عن العقلانية البحثية، أسلوب معلوم السلوك عند كثير من أتباع الأديان والطوائف ، ولكنه في ختام المطاف يرتد عليهم، ولا يمكن أن يُغَيِّبَ عقول الناس والأتباع إلى الأبد.
وقد تكون الجثة فعلا قائمة متماسكة ، ولكن ثمة فرق بين هذا التماسك بالكاد، وبين الجثة الغضة الطرية التي كأنها توفيت الساعة ، الأول ظاهرة كثيرة الوقوع ، يبدو فيها الجسد لم يُنتقص منه شيء، ولكن لمسة واحدة كفيلة بتحويل هذا الجزء الملموس المتماسك إلى فتات ، أما الغضاضة والطراوة، بل وظهور روائح طيبة للجثة، وتفجر الدم منها في بعض الأحيان فياضا، هذا أمر نادر الوقوع ، وهو ما نرجو أن يكون علامة على صلاح صاحبه ، وكرامة من الله جل جلاله له ، إذا اجتمع فيه الإسلام والصلاح . ولكننا أيضا لا نجزم بذلك، ولا نملك أي دليل شرعي يدل عليه، إنما هو طمع بكرم الله لمثل هؤلاء الناس كما سبق بيانه.
والحاصل :
أننا ندعو إلى التعقل والتفكر في ظاهرة عدم تحلل بعض جثث الموتى في مدافنهم، ودراسة الأمر من جميع الجوانب البيولوجية [الأحيائية]، والثيولوجية [دلالتها على الخالق]، فنحن لم نقف في كتب الإسلام على من يعد وقوع ذلك دليلا على صحة مذهب المتوفى أو ديانته ، كما لم نقف على من يستدل بذلك من علماء المسلمين في مجادلته لغير المسلمين ؛ لأنه ليس بدليل في حقيقة الأمر .
بخلاف ما يريده القساوسة الذين تكتب عنهم الأبحاث والمواقع المتخصصة ، يستعملون الشمع والمواد الحافظة ، ليظهروا جثث كبارهم على أنها محفوظة مَصُونة بقدرة الرب تعالى ، وكأنها رسالة إلهية تدعو إلى الإيمان بالمسيحية أو اليهودية ، وهذا كله من المبالغات العاطفية ، والتدليسات الكنسية التي لا تنطلي على العقلاء.
للمزيد يرجى النظر في الجواب الآتي: (230390)، (109997) .
والله أعلم.