من ترك شيئا لله عوضه الله بخير منه، فهل التعويض يكون من جنسه أم لا؟ وهل يكون في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل يمكن أن لا يعوضه الله بخير مما ترك؟
الحمد لله.
ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه رواه أحمد (21996) .
وقال الألباني: "وسنده صحيح على شرط مسلم" انتهى من السلسلة الضعيفة (1/62) .
وهذا التبديل والتعويض قد يكون بشيء من جنس الشيء المتروك، وقد يكون من غير جنسه .
قال ابن القيم رحمه الله:
" وقولهم من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه: حق، والعوض أنواع مختلفة ؛ وأجلّ ما يعوض به: الأنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى " انتهى من " الفوائد " (ص107) .
ومن أمثلة العوض في الدنيا، ما ذكره ابن القيم في كتابه القيم "روضة المحبين" (ص445):
" لما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر، حتى غابت الشمس: سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد .
ولما ترك المهاجرون ديارهم لله، وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم: أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا، وملكهم شرق الأرض وغربها ".
ولو اتقى اللهَ السارقُ، وترك سرقة المال المعصوم لله: لآتاه الله مثله، أو خيرا منه، حلالا .
قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه، بترك أخذ مالا يحل له، رزقه الله من حيث لا يحتسب " انتهى.
وهذا التعويض لا يلزم أن يكون بشيء محسوس من مال أو نحوه، بل قد يكون ذلك بأن يرزق الله تعالى عبده درجة عالية من الإيمان واليقين والرضى بما يقدره الله تعالى، كما قيل لبعض الزهاد وقد رئي في هيئة رثة: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وأنت تركت الدنيا فماذا عوضك الله !
فقال: الرضى بما أنا فيه "صفوة الصفوة" (2/397) .
وقد يكون هذا التعويض في الآخرة، وهو ظاهر، فإن من ترك شيئا لله عز وجل أثابه الله، وثواب الآخرة مهما قل، فهو أعظم من الدنيا كلها مهما عظمت .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله:
" فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا: لا يساوي ذرة مما في الجنة" .
انتهى نقلا من "فتح الباري" (6/14 ) .
وقال السندي رحمه الله في "حاشية ابن ماجه" (1/356): " ذَرَّةٌ مِنَ الآخرة خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" انتهى .
وقد جاءت بعض الأحاديث فيها النص على الجزاء الأخروي لمن ترك شيئا لله عز وجل .
روى الترمذي (2669) عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ: دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَىِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا حسنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (718).
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حُلَلِ الإِيمَانِ: يَعْنِى مَا يُعْطَى أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ.
وروى أحمد (15637)، وأبو داود (4779)، والترمذي (2153)، وابن ماجه (4176) عن معاذ بن أنس أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ: دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ . حسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .
وأهل التقوى والبصيرة لا يأبهون بالعوِض الذي ينالونه في الدنيا، بل كل همّهم ومنتهى آمالهم أن ينالوا العوض في الآخرة، بل إنهم إذا أدركوا من ذلك شيئا في الدنيا، فإنهم يداخلهم الخوف والوجل، يخشون أن يكونوا ممن عجلت لهم طيباتهم في الدنيا .
روى البخاري (1274): " أن عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتي يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ:
قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ، أَوْ رَجُلٌ آخَرُ، خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي "، وفي رواية للبخاري (4045): " وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ " .
فما دام العبد قد ترك شيئا مما نهاه الله عنه لا يتركه إلا لوجه الله عز وجل فالعوض له محقق، وهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده .
ولتعلم يا عبد الله: أن هذا الباب كله هو من الرزق، والرزق والعطاء، سواء ابتداء، أو جزاء، معلق بمشيئة الله جل جلاله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا .الإسراء/18-20.
فإذا كان الرزق، ابتداء، أو جزاء، إنما هو بيد الله جل جلاله، وبمشيئته العامة لخلقه، فليس من العقل ولا الحكمة في شيء أن يطلب ما في يد الله، بمخالفة أمر الله !!
عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: نفث روح القدس في روعي: أن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها ؛ فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله ؛ فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته . رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/166)، وغيرُه، وصححه الألباني .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (136164) ورقم (118138)
والله أعلم.