قرأتُ الفتوى الموجودة على موقعكم التي تذكر أن الأضحية سنة. ولكن لا يوجد دليل قوي في الموقع يدعم هذا الرأي. فهل يمكنكم رجاءً تقديم بعض الأدلة على أن الأضحية هي سنة وليست واجبة؟ وماذا عن حديث "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا" [ابن ماجه، الحديث 3123].
الحمد لله.
في هذه المسألة خلاف مشهور بين أهل العلم رحمهم الله، وأكثر العلماء يرون أن الأضحية سنة وليست واجبة.
وذهب الحنفية، والإمام أحمد في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى وجوب الأضحية على الموسر.
قال ابن قدامة رحمه الله:
"أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً غَيْرَ وَاجِبَة.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِلَالٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا، وَعَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ، فِي كُلِّ عَامٍ، أَضْحَاةً وَعَتِيرَةً.
وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْوِتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَدَخَلَ الْعَشْرُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرَتِهِ شَيْئًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَلَّقَهُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّقُ عَلَى الْإِرَادَةِ " انتهى من "المغني" (11/95).
استدل كل فريق من العلماء بعدة أدلة، ولكنها لا تخلو من مقال في أسانيدها، أو من نزاع في الاستدلال بها، وسنقتصر على أهم الأحاديث المرفوعة:
فأما الحديث الأول للقائلين بالوجوب:
فحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا رواه ابن ماجة (3123).
فلم يسلّم جمع من أئمة الحديث برفعه، وحكموا عليه بأنه من قول أبي هريرة؛ لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي في سننه (9/260): "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: الصحيح عن أبي هريرة أنه موقوف. قال: ورواه جعفر بن ربيعة وغيره عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا." انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجة وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب. قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك ليس صريحاً في الإيجاب." انتهى من "فتح الباري" (12/98).
ورجح الوقف ابن عبد البر وعبد الحق في "أحكامه الوسطى" 4/ 127، والمنذري في "الترغيب والترهيب"، وابن عبد الهادي في "التنقيح" 2/498" ينظر "حاشية محققي سنن ابن ماجة" (4/303).
والحديث الثاني: حديث أبي رملة عن مخنف بن سليم مرفوعا يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً رواه أبو داود (2788) والترمذي (1596)، وابن ماجة (3125).
والعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب، وتسمى أيضا: "الرجبية".
وقد ضعفه جمع من أهل العلم رحمهم الله؛ لجهالة أبي رملة، واسمه عامر.
قال الخطابي: "هذا الحديث ضعيف المخرج، وأبو رملة مجهول." انتهى من "معالم السنن" (2/226).
وقال الزيلعي: "وقال عبد الحق: إسناده ضعيف. قال ابن القطان: وعلته الجهل بحال أبي رملة، واسمه عامر، فإنه لا يعرف إلا بهذا يرويه عنه ابن عون." انتهى من "نصب الراية" (4/211).
وأما القائلون بالاستحباب، فاستدلوا بعدة أحاديث مرفوعة، أهمها الحديثان اللذان ذكرهما ابن قدامة رحمه الله.
فالحديث الأول: حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثَلاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوَتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَصَلاةُ الضُّحَى رواه أحمد (2050) والبيهقي (2/467).
والحديث ضعفه جمع من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، قال ابن حجر رحمه الله:
"وَمَدَارُهُ عَلَى أَبِي جَنَاب الْكَلْبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبُو جَنَابٍ ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ أَيْضًا وَقَدْ عَنْعَنَهُ. وَأَطْلَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الضَّعْفَ كَأَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِمْ." انتهى من "التلخيص الحبير" (2/45). وينظر أيضا (2/258).
والحديث الثاني: حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا رواه مسلم (1977).
قال الإمام الشافعي: "هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَرَادَ) فَجَعَلَهُ مُفَوَّضًا إلَى إرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ واجبة لقال فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ." انتهى من "المجموع" (8/386).
ولكن هذا الاستدلال، لا يسلم من المناقشة؛ لأن التفويض إلى الإرادة ليس دليلا على عدم الوجوب.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"وعندي أن التفويض إلى الإرادة لا ينافي الوجوب، إذا قام عليه الدليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت: هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ولم يمنع ذلك من وجوب الحج والعمرة بدليل آخر... والأضحية لا تجب على المعسر فهو غير مريد لها، فصح تقسيم الناس فيها إلى مريد وغير مريد، باعتبار اليسار والإعسار" انتهى من " أحكام الأضحية والذكاة " (ص47).
والحاصل: أن الأحاديث في إيجاب الأضحية فيها مقال، وإن كان بعض أهل العلم قد حسّن بعضها. وكذلك الأحاديث التي تنص على استحبابها، بل هي من جهة الإسناد أشد ضعفا.
ولذلك قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في خاتمة رسالة له مطولة في "أحكام الأضحية والذكاة":
" هذه آراء العلماء وأدلتهم سقناها ليبين شأن الأضحية وأهميتها في الدين، والأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، وسلوك سبيل الاحتياط أن لا يدعها مع القدرة عليها، لما فيها من تعظيم الله وذكره وبراءة الذمة بيقين." انتهى.
مما يقوي القول بعدم وجوب الأضحية أمران:
الأول: البراءة الأصلية، فما دام أنه لم يأت دليل الوجوب السالم من المعارضة، فإن الأصل عدم الوجوب.
قال الشيخ ابن باز: "حكم الضحية أنها سنة مع اليسار، وليست واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين، وكان الصحابة يضحون في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وهكذا المسلمون بعدهم، ولم يرد في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوبها، والقول بالوجوب قول ضعيف." انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (18/36).
الثاني: الآثار الصحيحة الواردة عن الصحابة.
فقد صح عن أبي بكر وعمر وغيرهما أنهم كانوا لا يضحون، كراهية أن يظن الناس وجوبها.
روى البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (14/16): 18893، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: (أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَكَانَا لِي جَارَيْنِ وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ).
قال البيهقي بعده: "وَرُوِّينَا فِي كِتَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَمُطَرِّفٍ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَفِي بَعْضِ حَدِيثِهِمْ: كَرَاهِيَةَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمَا". وينظر أيضا: "السنن الكبرى" (9/444).
قال النووي في "المجموع" (8/383): "وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ." انتهى.
وقال الهيثمي: "ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح." انتهى من " مجموع الزوائد " (4/18). وصححه الشيخ الألباني في " الإرواء " (4/354).
وروى البيهقي (9/445) بإسناده عن أبي مسعود الأنصاري: "إني لأدعُ الأضحى وإني لموسر، مخافةَ أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليَّ"، وصححه الألباني في " الإرواء " أيضا.
والخلاصة: أن في المسألة خلافا معتبرا بين أهل العلم، والقول بالاستحباب هو ما ترجح لدينا.
ومن سلك سبيل الورع من الموسرين ولم يترك الأضحية، فهذا أحوط وأبرأ لذمته كما قدمنا عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
ومن أراد الاستزادة فلينظر " أحكام الأضحية والذكاة " للشيخ ابن عثيمين، و"المفصل في أحكام الأضحية " لحسام الدين عفانة، فقد أفادا فيها بعبارة سهلة ميسرة.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (41899) ورقم (36755) ورقم (36651).
والله أعلم.