أريد أن أقترح على رجل يعمل حارسا في شركة خاصة بأجرة معينة ، وهو قد إقترب عن الترك هذا العمل ، أن يهيء لي أن أعمل مكانه في هذا العمل ، فإذا أصبحت أعمل مكانه أعطيه عشر الأجرة . علما أني أنوي من قبل التصدق بعشر مالي إن رزقني الله عملا أرزق منه . فهل تعتبر هذه العشر من المال صدقة أم رشوة ؟ أو ما حكمها ؟
الحمد لله.
أولا:
إذا كنت صالحا لهذا العمل، فلا حرج على من يتوسط لك لتحصل عليه، فإن هذا من الشفاعة الحسنة.
قال الله تعالى : ( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ) النساء /85 .
وعَنْ أَبِي مُوسَى : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ - وَرُبَّمَا قَالَ جَاءَهُ السَّائِلُ - أَوْ صَاحِبُ الحَاجَةِ، قَالَ: ( اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا ) " رواه البخاري ( 6028 ) .
وإذا لم تكن صالحا للعمل، لم يجز التوسط لك فيه، وهو من الشفاعة السيئة، وفيه غش لأصحاب العمل.
ثانيا:
الظاهر أن هذا الرجل لا يبذل جهدا ولا عملا في سبيل توظيفك، وإنما يتوسط ويشفع.
وقد اختلف الفقهاء في أخذ الأجرة على الشفاعة أو ما يسمى ب "ثمن الجاه"، فذهب بعضهم إلى جوازه، كما يفهم من كلام الشافعية والحنابلة ، وذهب آخرون إلى منعه أو كراهته أو التفصيل في حكمه، وهي أقوال في مذهب المالكية .
قال في "الروض المربع" في باب القرض : " وإذا قال : اقترض لي مائة ، ولك عشرة : صح ؛ لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه " انتهى .
ومثل ذلك في "مغني المحتاج" (3/35).
وقال في "الإنصاف" (5/134) : " لو جعل له جُعلا (أي : أجرة) على اقتراضه له لجاهه : صح ؛ لأنه في مقابلة ما بذله من جاهه فقط " انتهى .
وقال الدسوقي رحمه الله: " (قوله وذي الجاه) قال أبو علي المسناوي: محل منع الأخذ على الجاه إذا كان الإنسان يمنع غيره بجاهه، من غير مشي ولا حركة . وأن قول المصنف (وذي الجاه) مقيد بذلك ، أي : من حيث جاهه فقط، كما إذا احْتُرم زيدٌ مثلا بذي جاه، ومُنع من أجل احترامه، فهذا لا يحل له الأخذ من زيد، ولذا قال ابن عرفة: يجوز دفع الضيعة لذي الجاه للضرورة ، إن كان يحمي بسلاحه، فإن كان يحمي بجاهه فلا؛ لأنها ثمن الجاه اهـ
وبيانه : أن ثمن الجاه إنما حرم؛ لأنه من باب الأخذ على الواجب، ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد اهـ.
وفي المعيار: سئل أبو عبد الله القوري عن ثمن الجاه ، فأجاب بما نصه:
اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه ، فمن قائل بالتحريم بإطلاق، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن مفصل فيه ، وأنه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر ، فأخذ أجر مثله : فذلك جائز ؛ وإلا حرم اهـ.
قال أبو علي المسناوي: وهذا التفصيل هو الحق" انتهى من حاشية الدسوقي (3/ 234).
واستدل المانعون بحديث أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا : فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ) .
رواه أبوداود (3541) ، وحسنه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 7 / 1371).
وذلك لأن الشفاعة عمل صالح يثاب عليه الإنسان من الله تعالى ، فإذا أخذ عليه أجرا أو هدية فقد ضيع أجره عند الله ، كما أن الربا يضيع الحلال .
ينظر : " عون المعبود " ( 9 / 457).
وأما المجيزون فأجابوا عن الحديث بأنه ضعيف، فقد ضعفه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام بقوله : في إسناده مقال، أو يحمل على الشفاعة التي يجب القيام بها، أو الشفاعة في شيء محرم .
قال الصنعاني رحمه الله تعالى :" فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة ...
ولعل المراد : إذا كانت الشفاعة في واجب ، كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم ، أو كانت في محظور ، كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية ، فإنها في الأولى واجبة ، فأخذ الهدية في مقابلها محرم ، والثانية محظورة ، فقبضها محظور .
وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح:
فلعله جائز أخذ الهدية ، لأنها مكافأة على إحسان غير واجب .
ويحتمل أنها تحرم ، لأن الشفاعة شيء يسير ، لا تؤخذ عليه مكافأة " انتهى من " سبل السلام " ( 5 / 128 ).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى :"وقد ترجم أبو داود للحديث بقوله " باب في الهدية لقضاء الحاجة " .
وعليه أقول: إن هذه الحاجة هي التي يجب على الشفيع أن يقوم بها لأخيه ، كمثل أن يشفع له عند القاضي أن يرفع عنه مظلمة ، أو أن يوصل إليه حقه ، ونحو ذلك ...
وقد يتبادر لبعض الأذهان أن الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه ؛ فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) . رواه أبو داود وغيره.
فأقول : لا مخالفة ، وذلك بأن يحمل هذا على ما ليس فيه شفاعة ، أو على ما ليس بواجب من الحاجة . والله أعلم " انتهى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (7/1371) .
والحاصل : أن ثمن الجاه فيه تفصيل:
1-فإن كان التوسط مما يجب على الشافع، لم يجز.
2-وإن كان مما لا يجب عليه، كالتوسط في تحصيل الوظائف الخاصة، فإن بذل فيه جهدا وعملا، فهو جائز.
وإن لم يبذل فيه جهدا، فاختلف فيه على ما سبق بيانه .
فعلى القول بالجواز: لا حرج أن تعطي هذا الرجل مالا ليشفع لك ، وتنال الوظيفة، لكن لا يجوز إعطاؤه عشر الراتب على الدوام، لما في ذلك من الجهالة والغرر ، واقتطاعه من مالك ، على جهة الدوام ، ما لم يكسبه ، ولم يعمل له على جهة الدوام ، ودخول الضيق عليك، غالبا .
بل غاية ما هنالك أن تتفق معه على مبلغ مقطوع، أو عشر الراتب لمدة معينة كستة أشهر مثلا.
بل لا نرى لك أن تلزم نفسك بالقدر المذكور صدقة ، لا على وجه النذر ، ولا على نية الالتزام ، بل اجتهد في أن تتصدق ما تقدر عليه ، مما فضل عن قوتك ، وقوت عيالك ، بحسب يسارك وإعسارك ، ولا تدخل الضيق على نفسك بالتزام أمر ، قد يشق عليك التزامه ، أو يضيق عليك أمر عيشك ؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ
رواه البخاري (1426) ومسلم (1034) .
والله أعلم.