الحمد لله.
أولا:
إحياء الموتى وقع معجزة لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، كما وقع ما هو أبلغ منه لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد يقع كرامة لأحد الصالحين، فيكون ذلك مستلزما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم لأن الصالح يقول: أنا متبع لهذا النبي الكريم.
وقد يقع إحياء الموتى لبعض الفجرة والكفرة ابتلاء وامتحانا، كما سيقع للدجال آخر الزمان.
قال الله تعالى عن قصة إبراهيم عليه السلام: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة/ 260
وجرى إحياء الموتى كرامة لبعض الأولياء ، كما قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) البقرة/ 243 .
وقال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة/ 259 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"معلوم أن المسيح نفسه لم تكن له آيات مثل آيات موسى ، فضلا عن الحواريين ، فإن أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى ، وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء كإلياس وغيره .
وأهل الكتاب عندهم في كتبهم : أن غير المسيح أحيا الله على يديه الموتى، وموسى بن عمران : من جملة آياته العصا ، التي انقلبت فصارت ثعبانا مبينا، حتى بلعت الحبال والعصي التي للسحرة، وكان غير مرة يلقيها فتصير ثعبانا ، ثم يمسكها فتعود عصا.
ومعلوم أن هذه آية لم تكن لغيره ، وهي أعظم من إحياء الموتى ، فإن الإنسان كانت فيه الحياة، فإذا عاش فقد عاد إلى مثل حاله الأول ، والله تعالى يحيي الموتى بإقامتهم من قبورهم ، وقد أحيا غير واحد من الموتى في الدنيا.
وأما انقلاب خشبة تصير حيوانا ، ثم تعود خشبة ، مرة بعد مرة ، وتبتلع الحبال والعصي، فهذا أعجب من حياة الميت.
وأيضا : فالله قد أخبر أنه أحيا من الموتى على يد موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل ، أعظم ممن أحياهم على يد المسيح، قال تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) [البقرة: 55 - 56]. وقال تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) [البقرة: 73] انتهى من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (4/17-19) .
وقال رحمه الله في كتاب "النبوات" (2/ 807): " والآيات التي يبعث الله بها أنبياء، قد يكون مثلها لأنبياء أُخَر؛ مثل إحياء الموتى؛ فقد كان لغير واحد من الأنبياء.
وقد يكون إحياء الموتى على يد اتباع الأنبياء؛ كما قد وقع لطائفة من هذه الأمة، ومن أتباع عيسى؛ فإن هؤلاء يقولون: نحن إنّما أحيى الله الموتى على أيدينا؛ [لاتّباع محمد، أو المسيح، فبإيماننا بهم، وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا] ، فكان إحياء الموتى مستلزماً [لصدق] عيسى، و[محمّدٍ] ، لم يكن قطّ مع تكذيبهما، فصار آية لنبوّتهم، وهو أيضاً آية لنبوّة موسى، وغيره من أنبياء بني [إسرائيل] الذين أحيي الله الموتى على أيديهم" انتهى.
وقال رحمه الله: " وأما معجزات عيسى، عليه السلام، فمنها إحياء الموتى، وللنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت، وقد كلم النبي صلى الله عليه وسلم الذراع المسمومة، وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه...
قلت: وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام عليه، كما روي في " صحيح مسلم " ، من المعجز : ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة ; لأنه كان محلا للحياة في وقت، بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه، وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرسالة، وحنين الجذع إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
قال شيخنا، رحمه الله تعالى: وقد جمع ابن أبي الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت، وذكر منها كثيرا..." .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، بعد ذلك ، كثيراً من القصص عن إحياء الموتى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ثبوت كثير منها نظر .
ينظر : البداية والنهاية (9/ 391- 394).
ثانيا:
المعيار في الصلاح والولاية: الاستقامة، لا الكرامة، فقد يكون الأمر الخارق استدراجا، لا كرامة.
قال الشاطبي رحمه الله : " ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة ، بل منها ما يكون كذلك ، ومنها ما لا يكون كذلك .
وبيان ذلك بالمثال : أن أرباب التصريف بالهمم ، والتقربات بالصناعة الفلكية ، والأحكام النجومية ، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة ، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض ، ليس لها في الصحة مدخل ...
وإن كان بغير دعاء ، كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل ، فذلك غير ثابت النقل ، ولا تجد له أصلا ، بل أصل ذلك : حال حِكْمي ، وتدبير فلسفي لا شرعي ؛ هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به ، فليس بدليل على الصحة ، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح ، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك ، ولا يكون شاهدا على صحته ؛ بل هو باطل صرف ، وتعد محض ، وهذا الموضع مزلة قدم للعوام ، ولكثير من الخواص" انتهى باختصار من " الموافقات " (2/444-446).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" تجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله : أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة ، مثل أن يشير إلى شخص فيموت ؛ أو يطير في الهواء إلى مكة ، أو غيرها ، أو يمشي على الماء أحيانا ؛ أو يملأ إبريقا من الهواء ؛ أو ينفق بعض الأوقات من الغيب ، أو أن يختفي أحيانا عن أعين الناس ؛ أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه ، قد جاءه فقضى حاجته ؛ أو يخبر الناس بما سرق لهم ؛ أو بحال غائب لهم ، أو مريض ، أو نحو ذلك من الأمور .
وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله . بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ، أو مشى على الماء ، لم يُغتر به ، حتى يُنظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموافقته لأمره ونهيه .
وكرامات أولياء الله تعالى : أعظم من هذه الأمور .
وهذه الأمور الخارقة للعادة - وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله - فقد يكون عدوا لله ؛ فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين ، وأهل الكتاب والمنافقين ، وتكون لأهل البدع ، وتكون من الشياطين .
فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله ؛ بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن ، وبحقائق الإيمان الباطنة ، وشرائع الإسلام الظاهرة" انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (11/213) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
" وأما الكرامة فهي ما يجري الله على أيدي أوليائه المؤمنين من خوارق العادات ، كالعلم ، والقدرة ، وغير ذلك ، كالظُّلَّة التي وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن ، وكإضاءة النور لعباد بن بشر وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما افترقا ، أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه .
وشرط كونها كرامة : أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيمًا على الإيمان ، ومتابعة الشريعة ، فإن كان خلاف ذلك ؛ فالجاري على يده من الخوارق : يكون من الأحوال الشيطانية .
ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين ، لا يدل على نقص إيمانهم ؛ لأن الكرامة إنما تقع لأسباب :
منها : تقوية إيمان العبد وتثبيته ؛ ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئا من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم .
ومنها : إقامة الحجة على العدو ، كما حصل لخالد لما أكل السم ، وكان قد حاصر حصنا ، فامتنعوا عليه حتى يأكله ، فأكله ، وفتح الحصن .
ومثل ذلك ما جرى لأبي إدريس الخولاني لما ألقاه الأسود العنسي في النار ، فأنجاه الله من ذلك ؛ لحاجته إلى تلك الكرامة .
وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حساً من فوقها ، فرفعت رأسها ، فإذا هي بدلو من ماء ، فشربت منها ثم رفعت .
وقد تكون الكرامة ابتلاء ، فيسعد بها قوم ويشقى بها آخرون ، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر ، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم " انتهى من " التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة " (ص/107) .
والحاصل : أن إحياء الموتى قد يقع لغير الأنبياء، من أتباعهم، كما يقع لبعض الكفرة المردة كالدجال، وأن معيار الصلاح والولاية هو لزوم الاستقامة على الكتاب والسنة.
والله أعلم.