الحمد لله.
أولا :
يجب على المسلم أن يكون معظما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤدبا معه ومع سنته ، فلا يجوز لمسلم أن يأتي إلى حديث صحيح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ويسيء الأدب معه ، فيعترض على ما فيه من حكم ، أو يقول : إن هذا ليس عدلا .. ونحو ذلك من الكلمات التي لا يجوز لمسلم أن يقابل بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
بل الواجب على كل مسلم – وهو أشد وجوبا على من وصف نفسه بأنه طالب علم شرعي – أن يكون معظما لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، موقرا لها ، مؤدبا معها .
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : "ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين". سير أعلام النبلاء (6/401) .
فانظري ، يا أمة الله ، إلى هذا التعظيم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الإمام الجليل ، وقارني بينه وبين ما قلتيه في حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
والواجب عليك أن تستغفري الله ، وتتوبي إليه من هذا الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه ، وأن تعزمي على عدم العودة لمثل ذلك مرة أخرى .
وإذا أشكل على المسلم شيء من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد أن يسأل عنه ليزول عنه وجه الإشكال فإنه لا حرج عليه من ذلك .
ولكن يجب عليه أن يعتقد أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حق وصدق ، ولا يتطرق إليه الخطأ أو الزلل أو الظلم بأي حال من الأحوال ، ثم بعد ذلك يسأل المسلم ليتضح له ما لم يكن يعلمه .
أما أن ينصب الإنسان نفسه حاكما على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعترض عليه ، ويصوب ويخطئ ويعدل : فهذا الخطر العظيم ، والزلل الشنيع ؛ بل الضلال المبين . قال الله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) 65/النساء .
قال الشوكاني في "فتح القدير" (1/559) :
"أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْقَسَمِ بِحَرْفِ النَّفْيِ ، بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ غَايَةٌ، هِيَ:
تَحْكِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) فَضَمَّ إِلَى التَّحْكِيمِ أَمْرًا آخَرَ، هُوَ عَدَمُ وُجُودِ حَرَجٍ، أَيّ حَرَجٍ، فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ التَّحْكِيمِ وَالْإِذْعَانِ كَافِيًا ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ ، عَنْ رِضًا، وَاطْمِئْنَانٍ، وَانْثِلَاجِ قَلْبٍ، وَطِيبِ نَفْسٍ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا كُلِّهِ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَيُسَلِّمُوا) أَيْ: يُذْعِنُوا وَيَنْقَادُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكِّدَ فَقَالَ: (تَسْلِيماً) !! فَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يَقَعَ مِنْهُ هَذَا التَّحْكِيمُ، وَلَا يَجِدَ الْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ لِحُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، تَسْلِيمًا لَا يُخَالِطُهُ رَدٌّ وَلَا تَشُوبُهُ مُخَالَفَةٌ" انتهى .
وقال الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (5/268) :
"اعلم أن قوله تعالى : ( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط : أولها : قوله تعالى : ( حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ، وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا .
الشرط الثاني : قوله : ( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ ) .
واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب .
واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك ، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .
الشرط الثالث : قوله تعالى : (وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد ، أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالى أنه كما لا بد في الايمان من حصول ذلك اليقين في القلب ؛ فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : ( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ) المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : (وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) المراد منه الانقياد في الظاهر . والله أعلم" انتهى باختصار .
نقلنا هذه الأقوال حتى يعلم كل مسلم ما الواجب عليه تجاه سنة النبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتوقير والأدب معها ، وحتى تعلمي أنك تفوهت بقول عظيم فتبادري بالتوبة من ذلك .
ثانيا :
ليس في الحديث الذي ذكرتيه ظلم ولا تنقص من المرأة ، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل شيئا من ذلك ، والأمر أيسر من ذلك الوسواس كله ، يا أمة الله .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِذَا أَفَادَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوْ خَادِمًا، أَوْ دَابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ ) رواه ابن ماجه (1918).
ورواه أبو داود (2160) بلفظ ( إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ )، وحسّنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2160).
والحديث جاء مخاطبا الرجل لأن الرجل بالنسبة لزوجته هو صاحب القوامة والتوجيه ، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجة بأنها "أسيرة" عند زوجها ، فالزوج كالمالك لزوجته ، وقد ورد في حديث الواهبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها لأحد أصحابه بقوله : (ملكتكها بما معك من القرآن) رواه مسلم (3553) .
فلما كان الزوج هو صاحب السلطة والقوامة ، وهو كالمالك لزوجته – خوطب هو بهذا الخطاب، وأن يضع يده على ناصيتها .
وأما المرأة ، فهل تدعو بهذا الدعاء هي أيضا ، إذا دخل بها زوجها ليلة الزفاف ؟
قد يقال بذلك ، لأن الأصل عدم الخصوصية ، لا سيما إذا كان ذلك في أمر يشتركان فيه .
وقد سبق تقرير نحو من ذلك في دعاء : ( اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ) .
ينظر : جواب السؤال رقم (95742).
وينظر أيضا : "الفتاوى الفقهية" لابن حجر الهيتمي (4/107) ، "حاشية العبادي على الغرر البهية" (1/104) .
والذي يظهر أيضا : أن المرأة ، إن دعت بذلك ، فإنها لا تضع يدها على ناصية زوجها ، لأن هذا الفعل فيه نوع من السلطة والقيادة وهي لا تليق بالمرأة على زوجها .
ولا يمنع هذا أنه قد تكون بعض الزوجات خيرا من زوجها ، كما أن الرجل يدعو بهذا الدعاء إذا اشترى عبدا ، وقد يكون العبد خير من سيده وأكثر منه تقوى لله تعالى ، ولكن خوطب الرجل بهاذا الخطاب لأنه هو المالك لعبده ، وليس العكس .
ولو دعى العبد بهذا الدعاء أيضا لم يكن عليه من حرج ، فإن المسلم يسأل الله تعالى الخير ويستعيذ به من الشر على سبيل العموم ، وفي سورة الفلق التي أمرنا بقراءتها في مواضع عديدة: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) الفلق/1-2 .
فهذه استعاذة عامة شاملة لشر جميع المخلوقات ، بما فيها شر نفس الإنسان الداعي نفسه .
وقد يقال : إنه يكفي في ذلك دعاء الرجل ، كما هو ظاهر الحديث ، وليس ذلك تقليلا من شأن المرأة ، أو دفعا للشر عن نفوس الرجال ، فهذا أمر لا وجود له في النص ، ولا وجه لهذا الاحتمال ، إلا من باب الوساوس وخطرات الشيطان .
وإنما الرجل بذلك يطلب الخير والبركة ، له ولامرأته ، وهو الذي يأخذ بناصيتها ، لأنه في سلطانه ، وتحت قوامته .
قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله : " وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَوَّلَ مَا يَلْقَى زَوْجَتَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهَا وَيَقُولَ بَارَكَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَّا فِي صَاحِبِهِ وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْجِمَاعِ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا " انتهى، من "أسنى المطالب" (3/118) .
بل ظاهر ذلك الدعاء : أنه مفتقر إلى الله في طلب الخير لهما ، ودفع الشر عن أن يقع بينهما ، وأنه لا سلطان له بنفسه في جلب نفع ، ولا دفع ضر .
ثالثا :
وأما قرن المرأة مع الخادم والدابة فليس في هذا تقليل من شأن المرأة ، بل جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الثلاثة لا لأنها متساوية من كل وجه .
بل لأن بينها وجه شبه وهو المراد هنا ، وبُني عليه استحباب أن يقول الرجل هذا الدعاء ، وهو أن هؤلاء الثلاثة يدخلن تحت سلطة الرجل وقيادته ؛ وإلا فالرجل والمرأة والخادم كلهم عبيد لله .
وخيرهم عند الله منزلة هو أتقاهم لله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13 .
فقد تكون المرأة خيرا من الرجل ، وقد يكون الخادم خيرا من الاثنين ، ولكن هذا لا يجعل القيادة للخادم على سيده ، ولا للمرأة على زوجها .
وقد يرتكس أحد هؤلاء في حمْأة الضلالة والغي فتكون الدابة خيرا منه .
أخيرا ..
يجب التنبه لأمر خطير ، وهو أن الكثير من المسلمين – نظرًا لكثرة ما سمعوه من شبهات حول الإسلام من أعدائه ، وأن الإسلام قد ظلم المرأة وأهانها- لما سمعوا ذلك بكثرة ولم يكن عندهم من اليقين بصحة الإسلام ولا الفهم الحقيقي لنصوصه ما يقيهم خطر تلك الشبهات ، صار عند الكثير منهم حساسية زائدة خاطئة ، فكلما سمع حديثا فيه ذكر للمرأة ، أو بعض الأحكام الخاصة بقوامة الرجل على زوجته ونحو ذلك أثار الشيطان في نفسه تلك الشبهات ، وراح يعترض أو يشكك في تلك النصوص ، التي هي أعدل ما يكون ، وأتم ما يكون من حيث العدل والحكمة والمصلحة ، ولكنه أُتي من ضعف يقينه وسوء فهمه ، ولذلك حذر علماؤنا كثيرا من الاستماع لتلك الشبهات لمن ليس أهلا للرد عليها ، لأنها ستؤثر فيه ولابد ، إن عاجلا أو آجلا ، إن لم يتداركه الله برحمته وفضله .
والله أعلم .