الحمد لله.
أولا :
مِن أصول عقيدة المسلمين : الإيمان بأن الله تعالى هو وحده الذي يحيي ويميت ، ومن ادَّعى أن غير الله تعالى قادر على الإحياء والإماتة فقد كفر ، بل إن المشركين في جاهليتهم لم يعتقدوا ذلك في أصنامهم وآلهتهم .
قال الله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) البقرة/28 .
وقال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الحج/6 .
وقد بيَّن الله تعالى عجز الآلهة المزعومة عن الخلق والرزق والإحياء والإماتة .
قال تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الروم/40 .
وينظر جواب السؤال (75341) .
ثانيا :
قد أقدر الله عز وجل المسيح الدجال على إحياء ميّت ، ولم يَقْدِرْ -عدو الله- على ذلك بقوته وحوله ، وإنما قدر على ذلك بإذن الله وأمره ؛ لا باستقلال منه .
جاء في حديث النواس بن سمعان مرفوعا ، أن الدجال (يَدْعُو رَجُلا مُمْتَلِئًا شَبَابًا ، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ ، رَمْيَةَ الْغَرَضِ ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ) رواه مسلم برقم 5228 .
فكما أقدر الله عز وجل عيسى عليه السلام على أن يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبئ الناس ببعض المغيبات ، ولم يكن ذلك كله إلا بإذن الله سبحانه وتعالى = كذلك أقدر المسيح الدجال على بعض الخوارق بإذنه سبحانه ؛ فتنة منه ، وابتلاء لعباده سبحانه .
لكن عيسى كان ينسب ذلك إلى قدرة الله وإذنه ، والفاجر الدجال ينسب ذلك إلى نفسه .
قال عليه السلام لبني إسرائيل فيما حكاه الله عنه في كتابه ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) آل عمران/49 .
وقال تعالى : ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) المائدة/110 .
قال ابن عطية رحمه الله:
"وكون عيسى عليه السلام خالقا بيده ، ونافخا بفيه : إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله .
وأما الإيجاد من العدم ، وخلق الحياة في ذلك الطين : فمن الله تعالى وحده لا شريك له.
وقوله (بِإِذْنِ اللَّهِ) معناه : بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك ، وتمكين منه لي .
وحقيقة الإذن في الشيء : هي العلم بأنه يفعل ، والتمكين من ذلك " انتهى من "المحرر الوجيز" (1/439) .
ولعل السائل استشكل وقوع ذلك من الدجال ، ولم يستشكله من نبي الله عيسى عليه السلام ؛ لأن عيسى عليه السلام يقرر بهذه المعجزات توحيد الله في قلوب الناس ، فكيف يعطاها الدجال وهو يدعي بها الربوبية ؟
أجاب عن ذلك الخطابي رحمه الله ، فقال :
وقد يُسأل عن هذا، فيُقال: كيف يجوز أن يُجري الله تعلى آياته على أيدي أعدائه؟ وإحياء الموتى آية عظيمة من آيات أنبيائه. فكيف مَكَّن منه الدَّجَّال، وهو كذاب مفترٍ على الله يدعي الربوبية لنفسه؟
فالجواب: أن هذا جائز على سبيل الامتحان لعباده ، إذا كان منه ما يدل على أنه مُبطلٌ، غير مُحِقٍّ في دعواه، وهو أن الدَّجَّال أعور عين اليمنى ، مكتوب على جبهته كافر، يقرأه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر ، ونقص العَوَر ، الشاهدَين بأنه لو كان ربًّا لقدر على رفع العَوَر عن عينه ، ومحو السِّمة عن وجهه .
وآيات الأنبياء التي أُعطوها الأنبياء بريئة عما يعارضها، ونقائضها، فلا يشتبهان بحمد الله" انتهى من "أعلام الحديث" (4/2331) .
وينظر جواب السؤال (223174) .
ثالثا :
ورد في بعض الأحاديث الضعيفة أن ما يقع من الدجال إنما هو سحر تخييل ، ولا حقيقة لما يدّعيه من القتل والإحياء .
قال الحافظ ابن حجر :
"وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعْتَمِرٍ (ثُمَّ يَدْعُو بِرَجُلٍ ، فِيمَا يَرَوْنَ ، فَيُؤْمَرُ بِهِ ، فَيُقْتَلُ ، ثُمَّ يَقْطَعُ أَعْضَاءَهُ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَهَا ، حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ ، ثُمَّ يَجْمَعُهَا ، ثُمَّ يَضْرِبُ بِعَصَاهُ ؛ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ !! فَيَقُولُ : أَنَا اللَّهُ الَّذِي أُمِيتُ وأحي !!
قَالَ وَذَلِكَ كُلُّهُ سِحْرٌ ؛ سَحَرَ أَعْيُنَ النَّاسِ ، لَيْسَ يَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا) .
وَهُوَ سَنَدٌ ضَعِيفٌ جِدًّا " . انتهى ، من فتح الباري لابن حجر (13/104) .
ومع ضعف هذا الحديث ، فإن آيات الدجال وخوارقه الأخرى التي أعطاه الله إياها ، تؤيد وقوع ذلك على الحقيقة لا التخييل .
فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال :
"مَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ ؟" قَالَ صلى الله عليه وسلم ( كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ . فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ - الماشية - أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا - الأعالي والأسنمة - وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ - كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل - . ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) رواه مسلم (5228) .
فأمره السماء بأن تمطر، والأرض فتنبت ، وسِمَن بهائم مصدقيه ، وامتلاء ضروعها ، وانتشار زروعهم ، وخصب أراضيهم وانتفاعهم بذلك = يؤكد أن الأمر ليس تخييلا .
ومع أنها خوارق حقيقية ، إلا أن الله جعل فيها نقصا ظاهرا ، ودليلا واضحا على كذب الدجال ، وأنه مبطل في دعواه؛ يراه المؤمن بعين بصيرته، فينجو، ويعمى عنه المفتون المرتاب ، فيهلك.
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" لم تتْرك هَذِه الشُّبْهَة حَتَّى دُفعت فِي الْحَال؛ فَإِن فِي هَذَا الحَدِيث أَنه يهم بقتْله مرّة أُخْرَى فَلَا يقدر، وَيَأْمُر بقتْله فَلَا يَصح لَهُ، وَيَأْخُذهُ ليذبحه فَيضْرب على رقبته نُحَاس فَلَا يُمكنهُ !!
فَمَا نَفعه الْفِعْل الأول حِين افتضح فِي الثَّانِي .
فَعلم أَن الأول كَانَ من الله عز وَجل، ليقيم الشُّبْهَة بِإِزَاءِ الْحجَّة، ويفرض على الْعقل دحضها" انتهى من "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (3/117) .
وينظر : "فتح الباري" لابن حجر (13/103) .
والله أعلم .