سمعت مقطعا في اليوتيوب يقول : إن صلاة التهجد بدعة، ولم يرد التفرقة بينها (تراويح+تهجد) كلها صلاة واحد تكون أول الليل أو آخره، وأن أول من بدأ بها هو إمام الحرم عبدالله الخليفي رحمه الله قبل حوالي ٥٠ عاما، ولم تكن هذه التفرقة موجودة من قبل، فهل هذا صحيح ؟ وما حكم صلاتها متفرقة كما يفعل الناس؟
الحمد لله.
أولا:
يستحب قيام الليل في رمضان وغيره، وهو آكد في رمضان، وتشرع له الجماعة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ، وفعل أصحابه.
ووقت القيام من بعد سُنة العشاء إلى طلوع الفجر، ولا تحديد لعدد الركعات فيه؛ لما روى البخاري (472) ومسلم (749) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً ، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى .
وصلاة القيام تسمى التراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون فيها بعد أربع ركعات.
والتهجد هو القيام، وقيل: التهجد ما كان بعد النوم خاصة.
والليل كله محل للقيام، فلو قامه كله كان محسنا، ولو قام أوله، ثم قام في آخره، فلا حرج في ذلك، ولا وجه لمنعه، وهو ما عليه المسلمون من أزمنة بعيدة، يفعلون ذلك تخفيفا وتيسيرا.
وأما من منع من ذلك ، من أهل العلم المعاصرين: فلأنه يرى بدعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة!!
وهو قول ضعيف ؛ لمخالفته إطلاق جواب النبي صلى عليه وسلم السابق ، ومخالفته لعمل الصحابة ومن بعدهم، فإنهم كانوا يصلون عشرين ركعة، وتسعا وثلاثين، وغير ذلك.
قال الإمام الترمذي رحمه الله في سننه (3/160): "وَاخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ: أَنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً مَعَ الوِتْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَهُمْ بِالمَدِينَةِ.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا أَدْرَكْتُ بِبَلَدِنَا بِمَكَّةَ ؛ يُصَلُّونَ عِشْرِينَ رَكْعَةً .
وقَالَ أَحْمَدُ: رُوِيَ فِي هَذَا أَلْوَانٌ ، وَلَمْ يُقْضَ فِيهِ بِشَيْءٍ .
وقَالَ إِسْحَاقُ: بَلْ نَخْتَارُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " انتهى.
وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/69): " وروي عشرون ركعة عن علي، وشُتَيْر بن شكل، وابن أبي مليكة ، والحارث الهمداني ، وأبي البختري ، وهو قول جمهور العلماء ، وبه قال الكوفيون والشافعي وأكثر الفقهاء ، وهو الصحيح عن أبي بن كعب ، من غير خلاف من الصحابة ، وقال عطاء : أدركت الناس وهم يصلون ثلاثا وعشرين ركعة بالوتر " انتهى .
وانظر ذلك مسندا في "مصنف ابن أبي شيبة" (2/163).
وانظر: جواب السؤال رقم : (82152) .
ثم، أي فرق بين أن يصلي عشرين أو ثلاثا وعشرين متصلة، وبين أن يصلي ثمانية أو عشرا أول الليل، وإحدى عشرة آخره؟!
فمدار المسألة على أن التراويح لا تحديد لركعاتها، وأن الليل كله محل للقيام، وأن الفصل بين القيام لا يفعل تعبدا لذاته، وإنما يفعل تيسيرا، واستكثارا من الخير، وابتغاء لإيقاع شيء من القيام في الثلث الأخير من الليل، فمن سلّم بهذه المقدمات، لم يكن له أن يعترض على جعل القيام على جزئين.
قال الشيخ صالح الفوزان في كتاب "إتحاف أهل الإيمان بمجالس شهر رمضان" : وأما في العشر الأواخر من رمضان ، فإن المسلمين يزيدون من اجتهادهم في العبادة ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وطلباً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فالذين يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة في أول الشهر، يقسمونها في العشر الأواخر ، فيصلون عشر ركعات في أول الليل ، يسمونها تراويح ، ويصلون عشراً في آخر الليل ، يطيلونها مع الوتر بثلاث ركعات ، ويسمونها قياماً ، وهذا اختلاف في التسمية فقط ، وإلا فكلها يجوز أن تسمى تراويح ، أو تسمى قياماً .
وأما من كان يصلى في أول الشهر إحدى عشرة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، فإنه يضيف إليها في العشر الأواخر عشر ركعات ، يصليها في آخر الليل ، ويطيلها ، اغتناماً لفضل العشر الأواخر ، وزيادة اجتهاد في الخير ، وله سلف في ذلك من الصحابة وغيرهم ممن كانوا يصلون ثلاثاً وعشرين كما سبق ، فيكونون جمعوا بين القولين : القول بثلاث عشرة في العشرين الأول ، والقول بثلاث وعشرين في العشر الأواخر " انتهى .
وينظر تتمة كلامه تحت هذا الرابط:
http://iswy.co/evnq3
ثانيا:
هذا الفصل والتقسيم أمر قديم، وليس كما جاء في السؤال أنه منذ خمسين عاما، أو نحو ذلك.
قال ابن رجب رحمه الله: "وروى المروذي، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان، يقوم فيوتر بهم، وهو يريد يصلي بقوم آخرين -: يشتغل بينهما بشيء، يأكل أو يشرب أو يجلس.
قال أبو حفص البرمكي: وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة، ويشتغل بينهما بشيء؛ ليكون فصلا بين وتره، وبين الصَّلاة الثانية.
وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه، فإما إن كانَ موضع آخر، فذهابه فصل، ولا يعيد الوتر ثانية؛ لأنه لا وتران في ليلة. انتهى.
والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك:
قال - في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام، ثم دخل بيته -: يعجبني أن يكون بعد ضجعة، أو حديث طويل.
واختلفت الرواية عن أحمد في (التعقيب) في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل، وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا:
فنقل المروذي وغيره، عنه: لا بأس به، وقد روي عن أنس فيه.
ونقل عنه ابن الحكم، قالَ: أكرهه، أنس يُروى عنه أنه كرهه، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل، كما قال عمر.
قال أبو بكر عبد العزيز: قول محمد بن الحكم قول له قديم، والعمل على ما روى الجماعة، أنه لا بأس به. انتهى.
وقال الثوري: التعقيب محدث.
ومن أصحابنا من جزم بكراهيته، إلا أن يكون بعد رقدة، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل، وشرطوا: أن يكون قد أوتروا جماعة في قيامهم الأول، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه. ولم يشترط أحمد ذلك.
وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ...
ونقل ابن المنصور، عن إسحاق بن راهويه، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل، كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته. وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره" انتهى من "فتح الباري" لابن رجب (9/ 174).
والكراهة محمولة على ما لو أوتر بهم الإمام أول الليل، ثم عاد فقام بهم، وهذا يفعله بعض الناس اليوم، وأكثر الفقهاء على عدم الكراهة، كما قال ابن رجب.
والمقصود أن هذا الفصل أمر قديم، تكلم فيه السلف.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله: لا التعقيب في جماعة ، أي: لا يُكره التَّعقيب بعد التَّراويح مع الوِتر، ومعنى التَّعقيب: أن يُصلِّيَ بعدها ، وبعد الوِتر ، في جماعة.
وظاهرُ كلامه: ولو في المسجد.
مثال ذلك: صَلّوا التَّراويح والوتر في المسجد، وقالوا: احضروا في آخر الليل لنقيم جماعة، فهذا لا يُكره على ما قاله المؤلِّف.
ولكن هذا القول ضعيف، لأنه مستندٌ إلى أثر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال: لا بأس به، إنما يرجعون إلى خير يرجونه ... أي: لا ترجعوا إلى الصَّلاة إلا لخير ترجونه.
لكن هذا الأثر، إنْ صَحَّ عن أنس: فهو مُعَارِض لقوله صلّى الله عليه وسلّم: اجْعَلوا آخِرَ صَلاتِكم بالليل وِتْراً ؛ فإنَّ هؤلاء الجماعة صَلُّوا الوِتر، فلو عادوا للصَّلاة بعدها ، لم يكن آخرُ صلاتهم بالليل وِتراً.
ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ: أنَّ التَّعقيب المذكور مكروه، وهذا القول إحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمد رحمه الله، وأطلق الروايتين في المقنع و الفروع و الفائق وغيرها، أي: أنَّ الروايتين متساويتان عن الإمام أحمد، لا يُرَجَّح إحداهما على الأخرى.
لكن لو أنَّ هذا التَّعقيبَ جاء بعد التَّراويح، وقبل الوِتر، لكان القول بعدم الكراهة صحيحاً، وهو عمل النَّاس اليوم في العشر الأواخر من رمضان، يُصلِّي النَّاس التَّراويح في أول الليل، ثم يرجعون في آخر الليل، ويقومون يتهجَّدون" انتهى من "الشرح الممتع" (4/ 67).
والله أعلم.