الحمد لله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ : إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلاَ تُكَذِّبِينِي ... " رواه البخاري (3358) ، ومسلم (2371).
ووجه الاشكال في هذا الحديث؛ هو كيف ينفي وجود مؤمن غيرهما؟ مع أن لوطا عليه السلام كان ممن آمن له، قال الله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ العنكبوت/26.
وقد أجيب عن هذا الاشكال بجوابين:
الجواب الأول:
أن المقصود بالنفي، هو وجود زوجين مؤمنين غيرهما.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنّه آمن له لوط ... يعني : ولم يؤمن به من قومه سواه ، وسارّة امرأة إبراهيم الخليل .
لكن يقال: كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين الحديث الوارد في الصّحِيح: أنّ إبراهيم حين مرّ على ذلك الجبّار، فسأل إبراهيم عن سارة: ما هي منه؟ فقال: هي أختي، ثمّ جاء إليها فقال لها: إنّي قد قلت له: إنّك أختي، فلا تكذّبيني، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في الدّين؟ .
وكأنّ المراد من هذا- واللّه أعلم- أنّه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك، فإنّ لوطا عليه السّلام آمن به من قومه، وهاجر معه إلى بلاد الشّام، ثمّ أرسل في حياة الخليل إلى أهل "سدوم" "انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 272 - 273).
وهذا الجواب ينبني على افتراض أن لوطا عليه السلام كان ملازما لهما في جميع تنقلاتهما بعد هجرتهم إلى الشام؛ وهذا أمر ليس بلازم.
الجواب الثاني:
مقصود إبراهيم عليه السلام من النفي، هو متعلق ببلد معين دخله مع زوجه، ولم يصحبهما لوط في ذلك السفر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قَوْلُهُ: ( لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُك )ِ يشكل عليه كون لوط كان معه، كما قال تعالى: ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ).
ويمكن أن يجاب بأنّ مراده بالأرض؛ الأرض الّتي وقع له فيها ما وقع ، ولم يكن معه لوط إذ ذاك " انتهى من "فتح الباري" (6 / 393).
وهذا الذي تتابع عليه شراح الحديث.
فليس المقصود بـ"الأرض" في الحديث : عموم الأرض ، وإنما الأرض المعهودة في الخبر، وهي أرض هذا الملك الجبّار، كما يتضح في رواية في"صحيح مسلم" (2371):
... فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ ... .
وقال القسطلاني رحمه الله: " فقال (يا سارة ليس على وجه الأرض) : التي وقع بها ذلك ... وتخصيص الأرض ، بالأرض التي وقع بها ذلك : دافع لاعتراض من قال : إن لوطًا كان مؤمنًا معه ، قال تعالى: (فآمن له لوط" انتهى من "إرشاد الساري" (5/349) .
ويزداد هذا الجواب قوة، إذا صح الخبر أن هذه الأرض هي مصر.
قال العيني رحمه الله تعالى:
" وقال علماء السير: أقام إبراهيم بالشام مدة ، فقحط الشام، فسار إلى مصر ومعه سارة.
وكان بها فرعون، وهو أول الفراعنة، عاش دهرا طويلا، فأتى إليه رجل، وقال: إنه قدم رجل ومعه امرأة من أحسن الناس، وجرى له معه ما ذكره في الحديث " .
انتهى من "عمدة القاري" (15 / 249).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وذكر أهل الكتاب: أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه: إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك. فابتنى إبراهيم مذبحا لله؛ شكرا على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس، ثم انطلق مرتحلا إلى اليمن، وأنه كان جوع؛ أي قحط وشدة وغلاء، فارتحلوا إلى مصر، وذكروا قصة سارة مع ملكها... " انتهى من "البداية والنهاية" (1 / 348).
وعلى هذا الاحتمال؛ فإن مصر سميت بالأرض في عدة نصوص من الوحي؛ كما في قوله تعالى في قصة يوسف: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف/55.
وفيها أيضا: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يوسف/80.
وقال الله تعالى في قصة بني اسرائيل مع فرعون: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا الإسراء /101 - 103.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( فأراد أن يستفزهم من الأرض ) : يعني: فرعون ؛ أراد أن يستفز بني إسرائيل من أرض مصر.
وفي معنى يستفزهم قولان: أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس. والثاني: يستخفهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة.
وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية " انتهى من "زاد المسير" (3 / 58).
ويقولون ان اسم مصر في عصر الفراعنة كان (تا) وهذا الاسم هو بمعنى "الأرض".
قال الأستاذ رءوف أبو سعدة:
" كانت حياتهم الأرض والنهر ، فكانت مصر عندهم في لغتهم هي "الأرض" (تا) ، لا أرض غيرها من بعدها...
"مصر" عند أهلها كما رأيت بلغتهم هم هي الأرض، وإن تعددت النعوت ... " انتهى من "العلم الأعجمي في القرآن" (2 / 76 - 77).
والله أعلم.