الحمد لله.
لا حرج في التحريج على الجني الماس للإنسي، بوعظه، وأمره ونهيه، وإنذاره أنه إن لم يخرج ضُرب وقرئ عليه؛ ولو أدى ذلك إلى قتله.
وذلك أن الأصل: جواز الوعظ والإنذار، وجواز إخراج الجني من الإنسي ولو أدى إلى قتله، إذا لم يندفع صياله على المسلم وأذاه له إلا بذلك.
والأصل في ذلك: أن الرقية ليست توقيفية، فيجوز استعمال الأساليب المباحة المجربة؛ لما روى مسلم (2200) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: " كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ).
ويستدل لأصل لتحريج على الجن والعوامر، وإنذارهم أن يدعوا صيالهم وأذاهم: بما روى مسلم (5977) عن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلاَثًا فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلاَّ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ).
قال النووي رحمه الله: " وأما صفة الإنذار: فقال القاضي روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذونا، ولاتظهرن لنا.
وقال مالك: يكفي أن يقول أُحَرِّج عليك بالله واليوم الآخر أن لا تبدو لنا، ولا تؤذينا.
ولعل مالكا أخذ لفظ التحريج مما وقع في صحيح مسلم: ( فحرجوا عليها ثلاثا ). والله أعلم" انتهى من "شرح مسلم" (14/ 230).
بل هذا التحريج: يستحب، أو يجب، قبل قتل الجني، أو حرقه؛ كما يستتاب الإنسي قبل قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والمقصود: أن الجن إذا اعتدوا على الإنس، أُخْبِروا بحكم الله ورسوله، وأقيمت عليهم الحجة، وأُمروا بالمعروف، ونُهوا عن المنكر، كما يُفعل بالإنس؛ لأن الله يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، وقال تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تُؤْذَن ثلاثا، كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا؛ فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان.
وفي صحيح مسلم أيضا، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفتُّ فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي؛ أنِ اجلس. فجلست.
فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديثُ عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة. فقالت: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتا؛ الحية أم الفتى؟
قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، وقلنا: ادع الله يحييه لنا. قال: استغفروا لصاحبكم.
ثم قال: إن بالمدينة جنا قد أسلموا؛ فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك، فاقتلوه؛ فإنما هو شيطان}.
وفي لفظ آخر لمسلم أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئا منها، فحرجوا عليه ثلاثا؛ فإن ذهب، وإلا فاقتلوه فإنه كافر. وقال لهم: اذهبوا فادفنوا صاحبكم .
وذلك: أن قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا، ولو كان كافرا، بل قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/42).
وقال رحمه الله: " يجوز، بل يستحب، وقد يجب: أن يُذبَّ عن المظلوم، وأن ينصر؛ فإن نصر المظلوم مأمور به، بحسب الإمكان...
لكن يُنصر بالعدل، كما أمر الله ورسوله، مثل الأدعية والأذكار الشرعية، ومثل أمر الجني ونهيه، كما يؤمر الإنسي وينهى.
ويجوز من ذلك ما يجوز مثله في حق الإنسي، مثل أن يحتاج إلى انتهار الجني، وتهديده، ولعنه وسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: {قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثا...
واذا بريء المصاب بالدعاء والذكر، وأمرِ الجن ونهيِهم، وانتهارِهم وسبهم ولعنهم، ونحو ذلك من الكلام: حصل المقصود.
وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن، أو موتهم؛ فهم الظالمون لأنفسهم، إذا كان الراقي الداعي المعالج لم يتعد عليهم، كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم، فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله، وقد يحبسون من لا يُحتاج إلى حبسه، ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك، ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه، وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه .
وأما من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله: فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب، بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه، وإن كان الجن من العفاريت، وهو [أي: الراقي] ضعيف؛ فقد تؤذيه. فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العُوَذ، مثل آية الكرسي والمعوذات، والصلاة والدعاء، ونحو ذلك مما يقوى الإيمان، ويجتنب الذنوب التي بها يسلطون عليه، فإنه مجاهد في سبيل الله، وهذا من أعظم الجهاد، فليحذر أن يُنصر العدو عليه بذنوبه.
وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق...
فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته، فإن الشيطان يفسد عقله، ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشةَ إنسيٍّ بإنسيّ.
وإن لم يندفع إلا بالقتل؛ جاز قتله" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/ 49- 56).
والحاصل:
أنه لا حرج في التحريج على الجني الماس للإنسي، وأمره ونهيه، وتهديده ووعظه، كما يُفعل بالإنسي الظالم، ولا حرج في قتله وحرقه إذا لم يخرج إلا بالقتل أو الحرق.
وفي حرق الجني قال الدمياطي رحمه الله في إ"عانة الطالبين" (1/267):
" (قوله: والمصروع) أي من الجن.
فإذا أذَّن في أذنه، يزول عنه صرعه، ويذهب عنه الجن.
(فائدة) من الشنواني: ومما جُرب لحرق الجن: أن يؤذن في أذن المصروع سبعا، ويقرأ الفاتحة سبعا، والمعوذتين، وآية الكرسي، والسماء والطارق، وآخر سورة الحشر من (لو أنزلنا هذا القرآن) إلى آخرها، وآخر سورة الصافات من قوله: (فإذا نزل بساحتهم) إلى آخرها.
وإذا قرئت آية الكرسي سبعا على ماء، ورش به وجه المصروع؛ فإنه يفيق" انتهى.
والله أعلم.