هل يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فناءُ أُمَّتي بالطَّعنِ، والطاعونِ، وَخْزُ أعدائِكم من الجنِّ ، وفي كلٍّ شهادةٌ) مفسرا للآية التي في سورة البقرة الآية 275، قال الله عز وجل ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275))؟
الحمد لله.
الحديث رواه أحمد (19528) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ .
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟
قَالَ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ ، وَفِي كُلٍّ شُهَدَاءُ.
قال السندي في "حاشيته على المسند" (4/ 469): "وخز: الوخز بفتح واو وسكون خاء معجمة، بعدها زاي معجمة: طعن بالرمح أو غيره، ليس بنافذ.
وفي قوله: (أعدائكم)، إشارة إلى أن الطاعنين من الجن كفرة.
(وفي كل) من الطعن والطاعون" انتهى.
وروى الطبراني في الأوسط وأبو نعيم فِي فَوَائِد أبي بكر بن خَلاد، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتِي ، وَوَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الإِبِلِ تَخْرُجُ فِي الآباطِ وَالْمَرَاقِّ ، مَنْ مَاتَ فِيهِ مَاتَ شَهِيداً ، وَمَنْ أقَامَ فِيهِ كَانَ كَالمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ الله ، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ ، كَانَ كَالفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" برقم : (3946).
قال في "فيض القدير" (4/ 288): " والمراق : أسفل البطن ، جمع مَرَقٍّ" انتهى.
وقد أفاد الحديثان : أن الطاعون يكون من أذى الجن الكفرة، وهذا في الدنيا.
وأما قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا البقرة/275 .
فهذا في بيان حال أكلة الربا يوم القيامة، إذا خرجوا من قبورهم، أنهم يتخبطون كمن أصابه الشيطان بالمس.
قال القرطبي رحمه الله: " قوله تعالى: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) الجملة خبر الابتداء وهو(الذين). والمعنى: من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد.
وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه.
وقالوا كلُّهم: يبعث كالمجنون، عقوبة له ، وتمقيتا عند جميع أهل المحشر.
ويقوي هذا التأويل المجمع عليه : أن في قراءة ابن مسعود: (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم)...
و(يتخبطه) يتفعله ، من خبط ، يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده.
فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم ، فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم : يقومون ، ويسقطون.
ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة ، قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا ، والناس يمشون عليهم.
وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ، ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغالّ يجئ بما غل يوم القيامة ، بشهرة يشهر بها ، ثم العذاب من وراء ذلك" انتهى من "تفسير القرطبي" (3/ 354).
وقد شبه الله تخبط آكل الربا في المحشر، بأمر يعرفه المخاطَبون، وهو تخبط المصروع الذي مسه الشيطان، وفيه إثبات مس الشيطان للإنسان.
فإذا كان السائل يريد أن يقول إن المس هو الوخز، فهذا ليس صحيحا، بل المس هو التلبس والصرْع، وهو غير الطاعون، وكثير من الناس تتلبسهم الشياطين ، وتمسهم ، ولا يصابون بالطاعون.
وينظر في شأن المس: جواب السؤال رقم : (11447)، ورقم : (144835).
قال الرازي رحمه الله في تفسيره (7/ 74) : " أما قوله تعالى: ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: التخبط ، معناه : الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير للأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون ، لأنه كالضرب على غير الاستواء في الإدهاش، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل : خبطة، ويقال: به خبطة من جنون.
والمس الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس، وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنّه، ثم سمي الجنون مسا، كأن الشيطان يتخبطه، ويطؤه برجله، فيخبله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل، والمس باليد" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله تعالى: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) ؛ اختلف المفسرون في هذا القيام، ومتى يكون؛ فقال بعضهم - وهم الأكثر: إنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان.
والتخبط هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام المصروعين - والعياذ بالله - يشهدهم الناس كلهم؛ وهذا القول هو قول جمهور المفسرين؛ وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
القول الثاني: أنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع؛ لأنهم - والعياذ بالله - لشدة شغفهم بالربا، كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر؛ لأنهم سكارى بمحبة الربا، وسكارى بما يربحونه - وهم الخاسرون؛ فيكون القيام هنا في الدنيا؛ شبَّه تصرفاتهم العشوائية الجنونية المبنية على الربا العظيم - الذي يتضخم المال من أجل الربا - بالإنسان المصروع الذي لا يعرف كيف يتصرف. وهذا قول كثير من المتأخرين؛ وقالوا: إن يوم القيامة هنا ليس له ذكر؛ ولكن الله شبَّه حالهم حين طلبهم الربا بحال المصروع من سوء التصرف؛ وكلما كان الإنسان أشد فقراً، كانوا له أشد ظلماً؛ فيكثرون عليه الظلم لفقره؛ بينما حاله تقتضي الرأفة، والتخفيف؛ لكن هؤلاء ظلمة ليس همهم إلا أكل أموال الناس.
فاختلف المفسرون في معنى القيام ، ومتى يكون؛ لكنهم لم يختلفوا في قوله تعالى: (يتخبطه الشيطان من المس)؛ يعني متفقين على أن الشيطان يتخبط الإنسان؛ و (من المس) أي بالمس بالجنون؛ وهذا أمر مشاهد: أن الشيطان يصرع بني آدم؛ وربما يقتله - نسأل الله العافية -؛ يصرعه، ويبدأ يتخبط، ويتكلم، والإنسان نفسه لا يتكلم - يتكلم الشيطان الذي صرعه" انتهى من "تفسير سورة البقرة" (3/ 347).
والله أعلم.