الحمد لله.
عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ واه البخاري (1477)، ومسلم (593).
لفظ: (كَرِهَ) في هذا الحديث : لا يقصد به مصطلح "المكروه" الذي استقر عليه اصطلاح أهل العلم، والذي يعنون به المنهي عنه نهيا أخف من الحرام ، ويعرفونه بأنه:
" ما تركه خير من فعله " ، أو: " ما نهى عنه نهيا غير جازم " ، أو: " ما يثاب عليه تاركه، ولا يعاقب فاعله".
لأن هذا المعنى للمكروه لم يكن متداولا بين العرب الذين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث؛ فلا يصح أن يفسرّ به الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يُتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام، وإلا حرّف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك " انتهى من مجموع الفتاوى (1 / 243).
بل يلزم أن يفسّر بمعناه الذي كانت تقصده العرب في كلامها وهو: البغض وعدم الحب.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" (كره) الكاف والرّاء والهاء أصل صحيح واحد، يدلّ على خلاف الرّضا والمحبّة " انتهى من "مقاييس اللغة" (5 / 172).
فالمكروه في اللغة المبغوض الذي ليس بمحبوب، والذي يكرهه الله تعالى الأصل فيه أن يكون حراما لا يجوز فعله، كما ورد في قوله تعالى بعد ذكر جملة من المحرمات:
( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) الإسراء/38.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) إلى قوله: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) إلى قوله: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ) إلى قوله: ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ) إلى قوله: ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) إلى قوله: ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ) إلى قوله: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إلى آخر الآيات؛ ثم قال: ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا )، وفي الصحيح: ( إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ).
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله، ولكنِ المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركه أرجح من فعله " انتهى من "إعلام الموقعين" (2 / 81).
قال الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى:
" كراهته تعالى للشيء : عدم رضاه به ، وعدم محبته .
وهل يدل على التحريم لما أخبر عنه أن يكرهه؟
يحتمل " انتهى من "التنوير" (3 / 327).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى معلقا على هذا الحديث:
" كره وحرم : ليس بينهما فرق؛ لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، ولكن هذا والله أعلم من باب اختلاف التعبير فقط " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3 / 211).
والله أعلم.