حديث: خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وأعوذ بالله أن تدركوهن ..

14-07-2020

السؤال 333992

ما سبب ظهور الطواعين والأوبئة؟ وما معنى الحديث (خمس إذا ابتليتم وأعوذ بالله أن تدركوهن.. إلخ )، أريد الشرح الشافي، والكافي ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ظهور الأوبئة العامة ، وإن كان الله تعالى قد رتّبها على أسباب مادية معقولة يدركها المتخصص؛ إلا أن هذا لا ينافي أن يكون الله تعالى قد قدر هذه المصائب ، والأحداث الكونية العامة، بسبب ما أحدث العباد، وما عملوه من معصية الله، والكفر به . فلا تعارض بين السبب المادي الطبيعي، وهو من خلق الله وتقديره وتدبيره، وبين تعلق هذه الأقضية بأعمال العباد، وأحوالهم مع رب العالمين، وهي كذلك: من خلق الله وتدبيره وتقديره.

قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ   الشورى/30.

وقال الله تعالى:  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  الروم/41.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شيء صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، فهو عند مبدإ خلقه بريء من الآفات والعلل، تام المنفعة لما هيئ وخلق له، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر، من مجاورة أو امتزاج واختلاط، أو أسباب أخر تقتضي فساده، فلو ترك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به، لم يفسد.

ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه، بأسباب اقتضت حدوثه.

ولم تزل أعمال بني آدم، ومخالفتهم للرسل: تحدث لهم من الفساد العام والخاص، ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض، والأسقام والطواعين، والقحوط والجدوب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها، أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا.

فإن لم يتسع علمك لهذا، فاكتف بقوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )، ونزِّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت، في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 332).

ثانيا:روى ابن ماجه (4019) عَنِ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: 

يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:

لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.

وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.

وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ 

.

وفي الإسناد: ابن أبي مالك، واسمه: خَالِدُ بْنُ يَزِيد.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

" خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك أبو هاشم الهمداني الدمشقي، عن: أبيه، وعطية بن الحارث. وعنه: ابن أبي الحواري، وهشام الأزرق. ضعَّفوه " انتهى من "الكاشف" (1 / 370).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" خالد ابن يزيد ابن عبد الرحمن ابن أبي مالك، وقد ينسب إلى جد أبيه، أبو هاشم الدمشقي، ضعيف مع كونه كان فقيها، وقد اتهمه ابن معين " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 191).

لكن ورد له طريق آخر يتقوى بها؛ وهو ما رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5 / 61 - 62)، وفي "مسند الشاميين" (2 / 390)، والحاكم في "المستدرك" (4 / 540) عن الْهَيْثَم بْن حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْبَدٍ حَفْصُ بْنُ غَيْلَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فقال:

" ... فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:  يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ،  وَنَزَلْنَ فِيكُمْ ، أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ...   الحديث.

وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ"، ووافقه الذهبي، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، حيث قال:

" قلت: بل هو حسن الإسناد، فإن ابن غيلان هذا قد ضعفه بعضهم، لكن وثقه الجمهور، وقال الحافظ في " التقريب ":

" صدوق فقيه، رمي بالقدر ".

ورواه الروياني في "مسنده" (ق 247 / 1) عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن

عبد الله بن عمر مرفوعا.

وهذا سند ضعيف، عطاء هذا هو ابن أبي مسلم الخراساني ، وهو صدوق، لكنه مدلس

وقد عنعنه. وابنه عثمان ضعيف؛ كما في " التقريب ".

فهذه الطرق كلها ضعيفة؛ إلا طريق الحاكم فهو العمدة، وهي إن لم تزده قوة فلا

توهنه " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (1 / 218).

وكذا حسّنه محققو "سنن ابن ماجة- طبعة الرسالة" (5 / 150).

ومعنى الحديث له شواهد من الوحي؛ كقوله تعالى:   إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ   الرعد/11.

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:

" يقول تعالى ذكره: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ، ويهلكهم ( حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) من ذلك، بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض، فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره " انتهى من "تفسير الطبري" (13 / 471).

وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا.

والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم ، حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الآية، وقوله: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )... " انتهى من"أضواء البيان" (3 / 115).

وهذه العقوبات تحدث، إذا كثرت هذه الذنوب.

عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ:  لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ  -وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا -.

قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟

قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ  " رواه البخاري (3346)، ومسلم (2880).

وكذا إذا ظهر الفساد من البعض، فسكت البقية ولم ينهوا عنه.

عَنْ قَيْسٍ، قَالَ:

قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الْآيَةَ:   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  ، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:   إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ   رواه الإمام أحمد في "المسند" (1 / 178)، وأبو داود (4338).

وعن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنَ المَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ  رواه البخاري (2686).

وهذه الذنوب المذكورة في الحديث : عند تأمّل عقوباتها ، نرى أنها من جنسها، فالجزاء من جنس العمل.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى :

" قالوا : وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر ، كما قال تعالى ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي : وفق أعمالهم ، وهذا ثابت شرعا وقدرا " انتهى من "عون المعبود مع حاشية ابن القيم" (12 / 176).

فظهور الفواحش والتعالن بها ، من شأنه أن ينزل عقابا يكافئ ملذتها .

وظلم الناس لبعضهم البعض في أرزاقهم بالغش والخداع في الميزان، تقابله عقوبة حبس الرزق بالجفاف والمجاعات وظلم السلطان للرعية.

ومنع الناس لزكاتهم وحرمانها المحتاجين لها، يعاقب الناس عليه بعقوبة من جنس ذنبهم هذا فتحبس عنهم نعمة المطر.

ومباشرة الناس للغدر ونقض العهود، يعاقبون عليه بجنس هذا الذنب وذلك بغدر الأعداء بهم وهجومهم عليهم.

وعدم حكم الأئمة بالشرع، هو في حقيقته رفع للعدل والعلم، ونشر للجهل والتظالم.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه:

فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة ، سببا لمنع الغيث من السماء، والقحط والجدب.

وجعل ظلم المساكين، والبخس في المكاييل والموازين، وتعدي القوي على الضعيف ، سببا لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استُرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ، ظهرت في صور ولاتهم!!

فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا لتحق عليهم الكلمة، وليصير كل منهم إلى ما خلق له.

والعاقل يُسَيِّر بصيرتَه بين أقطار العالم ، فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته، وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة : على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، وبالله التوفيق " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 333 - 334).

والله أعلم.

شروح الأحاديث
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب