الحمد لله.
الإسلام يدعو للعلم ويرغب فيه ويثني على أهله، ويدعو لعمارة الدنيا وإصلاحها، وهذا لا يكون إلا بالعلم الشرعي والعلم الدنيوي معا.
والأمر كما ذكرت؛ فالعلوم الدنيوية من فروض الكفايات، أي يلزم أن يقوم بما تحصل به الكفاية منها جماعة من المسلمين وإلا أثموا جميعا.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله:
"بيان العلم الذي هو فرض كفاية: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده: تنقسم إلى شرعية وغير شرعية.
وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة.
فالعلوم التي ليست بشرعية: تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح؛ فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب.
وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها، حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين.
فلا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة؛ فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم، وحَرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك " انتهى من "إحياء علوم الدين" (1/ 16).
ثانيا:
لا يناقض هذا لو حُكم على عالم بالكفر أو الفسق، كما حكم على ابن سينا، وهذا لا علاقة له بعلمه الدنيوي من طب أو غيره، فإن العلماء الذين حكموا عليه بالكفر، لم يكفروه من أجل علمه بالطب، بل لأمور تتصل بالعلم الشرعي، كإنكاره المعاد الجسماني، وإنكاره علم الله بالجزئيات، فلو أن مسلما من أعلم أهل الأرض اليوم بالفيزياء أو الكيمياء أو الطب، قال إن القرآن محرف، أو قال: إن الأجسام لا تحشر ولا تحاسب يوم القيامة، أو قال غير ذلك مما هو كفر معلوم بالضرورة أنه كفر، فماذا سيكون حكمه؟
لا شك أن حكمه الكفر، ولا يقول هنا عاقل: إن هذا ذم للفيزياء أو الكيمياء أو الطب، وأن هذا يناقض قول المسلمين إن تعلم هذه العلوم فرض كفاية!
فالحكم عليه بالكفر جاء لقوله، أو تلبسه بكفر مجمع عليه، فلن يشفع له حينئذ علمه الدنيوي أو الشرعي أيضا، وليس من موانع التكفير كون الإنسان عالما أو طبيبا أو فليسوفا!
فما علاقة هذا بذم العلم أو التنفير منه.
ولو وقف الطبيب أو الفيزيائي عند تخصصه ولم يخض في الدين بالكفر، لظل في مقام الاحترام والتقدير والإشادة.
فهذه الشبهة لا تروج إلا على ضعفاء العقول، وجوابها يعتمد على تقرير: أن هناك أمورًا مكفرة يرتد بها المسلم عن دينه، وأن من وقع فيها عالما عامدا مختارا كفر، فمن لم يؤمن بمبدأ وجود الردة والمرتد، فلا كلام معه.
وقد قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المائدة/54.
فمن لم يؤمن بأن المسلم قد يكفر ويرتد، فلا كلام معه، وهو مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالف لإجماع الأمة.
وإذا كان قد حكم على فرد أو أفراد بالكفر على مدار قرون، فإن الأمة فيها آلاف العلماء من الأطباء والمهندسين والرياضيين ... وغيرهم لم يحكم عليهم بذلك.
ولسنا هنا بصدد مناقشة الأسماء التي ذكرتها، هل كُفّروا فعلا أو لم يكفروا، ونكتفي هنا ببيان حال ابن سينا، ولماذا كفره العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله: " وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم [بأمر الله الفاطمي]، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍّ خالق، ولا رسولٍ مبعوث جاء من عند الله تعالى" انتهى من "إغاثة اللهفان" (2/ 1031).
وقال ابن حجر رحمه الله: " وقال ابن أبي الحموي، الفقيه الشافعي شارح الوسيط، في كتابه الملل والنحل: لم يقم أحد من هؤلاء - يعني فلاسفة الإسلام - مقام أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سيناء، وكان أبو علي أقوم الرجلين وأعلمهم.
الى أن قال:
وقد اتفق العلماء على أن ابن سيناء كان يقول بقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني، ولا ينكر المعاد النفساني.
ونقل عنه أنه قال: إن الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، بل بعلم كلي؛ فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة، ممن يعتبر قولهم أصولا وفروعا، بكفره، وبكفر أبي نصر الفارابي، من أجل اعتقاد هذه المسائل وأنها خلاف اعتقاد المسلمين" انتهى من "لسان الميزان" (2/ 293).
وممن كفره: أبو حامد الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال"، ونسب إليه المقولات الثلاث السابقة. انظر: ص 144
فمن وقع في هذه الكفريات فهو كافر ولا كرامة، ولا نظر لكونه عالما بالطب أو الكيمياء أو غيرها، ولا مدخل لهذه العلوم في كفره كما واضح للبصير والأعمى.
ثالثا:
العلوم الشرعية مستغنية عن ابن سينا والفارابي والخوارزمي قطعا؛ لأن هؤلاء ليسوا من علماء الشريعة، وليس في هذا أدنى ذم لعلومهم وتخصصاتهم.
وهذا كما تقول اليوم عن أكبر طبيب: العلم الشرعي مستغن عنه، أي ليس هذا تخصصه، وكلامه فيه لن يسلم من الخطأ غالبا.
ولم نقف على ما نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية في حق الخوارزمي، وإن كان منشورا متداولا في مواقع الملاحدة وأعداء الإسلام.
وأحال بعضهم على "مجموع الفتاوى" (9/ 214) وما بعدها.
وكان عليك أن تبحث عن كلام شيخ الإسلام وتتحقق من وجوده أولا.
قال شيخ الإسلام: "وأما حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات، وهذا الثاني كله علم معقول يُعلم بالعقل، كسائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاج إليها الناس.
ثم قد ذكروا حساب المجهول الملقب بحساب الجبر والمقابلة في ذلك، وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدّوْر ونحو ذلك: أول من عرف أنه أدخله فيها محمد بن موسى الخوارزمي. وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب أنه تكلم فيه، وأنه تعلم ذلك من يهودي، وهذا كذب على علي.
ولفظ "الدور" يقال على ثلاثة أنواع...
الثالث: الدور الحسابي؛ وهو أن يقال لا يُعلم هذا حتى يعلم هذا. فهذا هو الذي يُطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة.
وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون حساب الجبر والمقابلة، وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحا ؛ فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يُتعلم من غير المسلمين أصلا ، وإن كان طريقا صحيحا. بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغني الله عنه بغيره ، كما ذكرنا في المنطق.
وهكذا كل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة ، والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر ، والعلم بالهلال؛ فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر. وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر؛ وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها، وهذا من جهلهم كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها. وهو وإن كان علما صحيحا حسابيا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا" انتهى من "مجموع الفتاوى" (9/ 214) وما بعدها.
وهذا كلام مستقيم يعرفه من يعرف ما في الكتاب والسنة من العلم.
وكثير من الشبهات تبنى على نص مكذوب ، ثم يتلقفه الجهلة والكذبة وأصحاب الأهواء.
وعلى فرض أن شيخ الإسلام قال العبارة التي نقلتها، فقد تقدم معناها وأن ليس فيها ذم لعلم الحساب، بل ولا للخوارزمي نفسه.
والمشكلة أن تتلقف الشبهات دون نظر وتمحيص، وإلا فهذه شبهة ساقطة، كان يمكنك جوابها بتأمل يسير.
والحاصل:
هو انفكاك الجهة، فجهة المدح: ما قام به العالم في تخصصه.
وجهة الذم من تبديع أو تكفير أو تفسيق: ما قاله من مقالات دينية يحكم عليها أهل العلم بالشريعة بأنها بدعة أو كفر أو فسق.
والنصيحة لك: أن تعرض في هذه المرحلة عن قراءة الشبهات، حتى يرسخ قدمك في العلم الشرعي، مع إدمان قراءة القرآن والنظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما علمك الدنيوي فنسأل الله أن ينفعك به، وأن ينفع به عباده، وأن يلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك.
والله أعلم.