ما حكم قول "الله لا يلومني"؟
الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم الصافات/139 – 142.
وقال الله تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ الذاريات/38 - 40.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى:
"اللَّوْمُ: عذل الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم.
يقال: لُمْتُهُ فهو مَلُومٌ. قال تعالى: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ إبراهيم (22)...
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ المؤمنون (6)؛ فإنه ذكر اللّوم تنبيها على أنه إذا لم يُلَامُوا، لم يُفْعل بهم ما فوق اللّوم.
وأَلَامَ: استحقّ اللّوم. قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ." انتهى من"المفردات" (ص 751).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى عن آية الصافات:
"قوله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ أي أتى بما يُلام عليه.
فأما الملوم: فهو الذي يُلام، استحق ذلك، أولم يستحق.
وقيل: المُليم: المَعيب. يقال ألام الرجلُ، إذا عمل شيئا، فصار معيبا بذلك العمل." انتهى من "تفسير القرطبي" (18 / 95).
وقال عن آية الذاريات: "فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ؛ يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه." انتهى من "تفسير القرطبي" (19 / 499).
واللوم هنا من الله تعالى.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:
"والمليم: الذي يجعل غيره لائما عليه، أي وهو مذنب ذنبا يلومه الله عليه، أي يؤاخذه به. والمعنى: أنه مستوجب العقاب." انتهى من "التحرير والتنوير" (27 / 10).
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) رواه أبو داود (3627).
ورغم ما نبّه إليه أهل العلم من ضعف في إسناد هذا الحديث؛ إلا أن أهل العلم وشراح الحديث ممن استشهدوا بهذا الحديث أو شرحوه، لم يستنكروا هذا العبارة فيه: (إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ).
ثانيا:
إذا ثبت ذلك، وتبين أن الذنب ما يستحق عليه العبد اللوم من الله، وأن التفريط في جنب الله، والتقصير في طاعته، والتواني عن عمل الخير: كل ذلك مما يستوجب لوم صاحبه، ويستدعي عذله وتأنيبه وتوبيخه؛ فقول القائل: (إن الله لا يلومني): إنما يصح منه إذا كان عمل طاعة، وأتى بخير، لامه عليه من لامه الناس؛ فيدفع لومهم عنه بقوله: (إن الله لا يلومني)، يعني: فما معنى لومكم لي؛ أولا: فلا قيمة للومكم علي، ما دمت على طمأنينة من أن الله لا يلومني.
لكن من الخطأ البين، والجرأة على رب العالمين، والقول على الله بغير علم: أن يأتي بمعصية الله، ويفرط في جنب الله، ويتوانى عن عمل الخير، ثم هو يقول: (إن الله لا يلومني).
وقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) النجم/31-32.
وقد أخبر الله جل جلاله عن الذين يزعمون براءتهم مما يعابون عليه، ويستحقون العذاب عليه، أو أن ما يصيبون من ذلك: إنما هو قليل، لا ينالهم من جرائه إلا عذاب قليل؛ أخبر أن ذلك فعل أهل الكفر به، والجراءة عليه، من اليهود والنصارى.
قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/80-82.
قال الشيخ السعدي، رحمه الله: "ذكر أفعالهم القبيحة، ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، أي: قليلة تعد بالأصابع، فجمعوا بين الإساءة والأمن.
ولما كان هذا مجرد دعوى، رد الله تعالى عليهم فقال: قُلْ لهم يا أيها الرسول أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته، فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل. أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا، فتكون دعواهم صحيحة.
وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا، لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء، حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون، قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم، من أعظم المحرمات، وأشنع القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد، يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم، وهو الحكم الذي لا حكم غيره، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: بَلَى أي: ليس الأمر كما ذكرتم، فإنه قول لا حقيقة له، ولكن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وهو نكرة في سياق الشرط، فيعم الشرك فما دونه، والمراد به هنا الشرك، بدليل قوله: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي: أحاطت بعاملها، فلم تدع له منفذا، وهذا لا يكون إلا الشرك، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية، وهي حجة عليهم كما ترى، فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مبطل يحتج بآية، أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، متبعا بها سنة رسوله.
فحاصل هاتين الآيتين، أن أهل النجاة والفوز، هم أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله، الكافرون به " انتهى من "تفسير السعدي" (57).
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: "ومدحك نفسك أقبح من مدحك غيرك، فإن غلط الإنسان في حق نفسه أكثر من غلطه في حق غيره، فإن حبك الشيء يعمي ويصم، ولا شيء أحب إلى الإنسان من نفسه، ولذلك يرى عيوب غيره ولا يرى عيوب نفسه، ويعذر به نفسه بما لا يعذر به غيره، وقد قال تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [النجم: 32] وقال: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء [النساء: 49] " انتهى من "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/210).
والحاصل:
أن الله يلوم على التفريط في حقه، وإضاعة أمره، وركوب معصيته.
وأن العبد، بمخالفة أمر الله: ملوم، مستحق للوم، من أهل الوعيد على ما اقترفت يداه.
وليس لعبد أن يقول: إن الله لا يلومني، إلا إذا قصد عملا معينا، لا نهي عنه من الشرع، ولا مخالفة فيه لأمر الله، ولا تعدي فيه لحده؛ فيصح أن يقول: إن الله لا يلومني؛ يعني: على هذا الفعل المعين.
والله أعلم.