الحمد لله.
هذا قد روي فيه حديث عن أم سلمة رضي الله عنها ، وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه المسألة ، فأجاب :
" سؤالكم عن حديث أم سلمة رضي الله عنها أن من لم يطف طواف الإفاضة قبل غروب الشمس من يوم العيد عاد محرما .
أفيدكم بأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة ، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك من وجوه :
الأول : من جهة سنده ، فإن مداره عند الإمام أحمد وأبي داود وابن خزيمة على محمد بن إسحاق صاحب السير المعروف ، قال : أخبرنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أنتم أمسيتم قبل أن تطوفوا بهذا البيت عدتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به ) .
فأما ابن إسحق ففي مفاريده بعض النكارة ، فقد سئل الإمام أحمد عن الحديث ينفرد به ابن إسحق تقبله ، قال : لا والله .
وقال محمد بن يحيى : حسن الحديث عنده غرائب . وقال الدارقطني : اختلف الأئمة فيه ، وليس بحجة , وإنما يعتبر به . انتهى . "تهذيب" (9/39-46) .
ولعل هذا الحديث من مفاريده المنكرة .
وأما أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة فقال فيه في "التقريب" (2/448) : مقبول من الثالثة .
وقال فيه في "المحلى" (7/142) : " ليس معروفا بنقل الحديث ، ولا معروفا بالحفظ ، ولو صح يعني حديث أم سلمة لقلنا به مسارعين إلى ذلك " انتهى .
وقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/228) نحو حديث أم سلمة لكنه من طريق عبد الله بن لهيعة ، قال فيه في التقريب (1/144) : " صدوق من السابعة خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما " انتهى .
قلت : وقد ضعفه بعض الحفاظ مطلقا ، وبعضهم فيما إذا روي عنه غير العبادلة .
فإذا كان هذا سند الحديث ، لم يروه إلا من في روايتهم نظر ومقال ، وأعرض عنه الأئمة الكبار من نقلة الحديث وحفاظه من رجال البخاري ومسلم وأمثالهم ، مع أنه في أمر تعم البلوى به وتتوافر الدواعي على نقله ، كان ذلك دليلا على أنه لا أصل له .
الوجه الثاني : من جهة متنه ، فمتنه شاذ ، لأن الأحاديث في الصحيحين وغيرهما ظاهرة متضافرة في أن التحلل الأول يحصل قبل الطواف بالبيت بدون قيد وقوعه قبل الغروب ، مثل قول عائشة رضي الله عنها : ( كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت ) ولا يمكن أن تقيد بمثل هذا الحديث الشاذ ، ولهذا قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/229) لما ذكر حديث عائشة رضي الله عنها : " فقد عارض ذلك حديث ابن لهيعة الذي بدأنا بذكره في هذا الباب ، فهذه أولى ، لأن معها من التواتر وصحة المجيء ما ليس مع غيرها مثله " انتهى .
الوجه الثالث : من جهة العمل به .
إذ لم يعمل به من الأمة : أئمتها وعلمائها إلا نفر قليل من بعد الصحابة إن صح النقل عنهم ، فقد قال الطبري في كتابه "القرى لقاصدي أم القرى" (ص472) حين ذكر الحديث : " وهذا حكم لا أعلم أحدا قال به " انتهى .
ونقل النووي في "شرح المهذب" (8/165) عن البيهقي قوله : " لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به . قلت ( النووي ) : فيكون منسوخا دل الإجماع على نسخه ، فإن الإجماع لا يَنْسخ ، ولا يُنسخ ، لكن يدل على ناسخ " انتهى .
فوافق البيهقيَّ النوويُّ على نفي العلم بالمخالف ، بل جعله إجماعا دالا على نسخ الحديث ، يعني : لأن الأمة لم تعمل به ، لكن في كلام النووي رحمه الله نظر لأن دعوى النسخ تستلزم ثبوت المنسوخ ، والحديث لم يثبت أصلا حتى يُدَّعَى فيه النسخ .
هذا وقد نقل بعض الناس عن عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة أنه قال به ، ولعله فهم ذلك من قوله فيما نقله عنه الطبري في كتابه "القرى" (ص470) : إنه لا يحل الطيب لمن لم يطف بالبيت بعد عرفة وإن قصر . أخرجه سعيد بن منصور .
وإنما قلت ذلك لأنه يبعد جدا أن يكون عروة بن الزبير قال بمقتضى حديث أم سلمة ثم يخفي قوله على مثل الطبري والبيهقي .
وعلى هذا يكون معنى قول عروة : إنه لا يحل له الطيب حتى يطوف بالبيت ، وهذا قول مشهور ، والنزاع في ذلك معروف ، والفرق بينه وبين مقتضى حديث أم سلمة بل صريحه : أن حديث أم سلمة يدل على أنه يحل قبل الطواف بالبيت ، لكن إن أخر الطواف عن غروب الشمس يوم العيد عاد محرما .
أما ما نقله الطبري عن عروة فيدل على توقف حل الطيب على الطواف وبين هذا وذاك فرق ظاهر . الوجه الرابع : أن مقتضاه مخالف لمقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية .
فإن مقتضاها : أن العامل متى حل من العبادة لم يعد إليها إلا بنية جديدة ، وهذا مما يضعف ثبوت الحديث ، ولو ثبت لكان القول به واجبا ، وكل قاعدة لها مستثنيات .
هذا ما يسر الله كتابته على عجل .
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للصواب ، والعمل بما دلت عليه السنة والكتاب ، إنه على ذلك قدير " انتهى من رسالة مكتوبة بخط الشيخ رحمه الله .