شخصيا لا أفهم كيف بأن الحسد يمرض أو يميت شخصاً، فمثلا شخص أطلق النار على شخص نفهم أن شيئا ماديا وهي الرصاصة قتلته، ولكن الحسد كيف يمرض، يفقر، يميت؟ أين الشيء المادي؛ يعني بدون حسد إذا مرضت أعلم أن الله تعالى قضى أن أمرض، ولكن بالحسد لا أفهم، كيف نمرض من الحسد، أليس لنا قضاء مكتوب، ولا يغير، فكيف بالحسد أن يفعل شيئا؟ سؤال آخر: هل سورة الفلق تقي من شخص حاسد؟
الحمد لله.
أولا:
تأثير الحسد والعين ثابت بالكتاب والسنة، ومعلوم بالعادة والمشاهدة.
قال تعالى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ القلم/51.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (18/ 254): "قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا) إن هي المخففة من الثقيلة. ليزلقونك أي يعتانونك. (بأبصارهم) أخبر بشدة عداوتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وإخال أنك سيد معيون
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت: ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك).
وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا- يعني في نفسه وماله- تجوع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه، فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال القشيري: وفي هذا نظر، لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب، لا مع الكراهية والبغض، ولهذا قال: (ويقولون إنه لمجنون) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه: قتله. ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك...
قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك.
وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم، يقال: زلق السهم وزهق، إذا نفذ، وهو قول مجاهد. أي ينفذونك من شدة نظرهم. وقال الكلبي: يصرعونك. وعنه أيضا والسدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العوفي: يرمونك. وقال المؤرج: يزيلونك. وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك. وقال عبد العزيز بن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد. وقال ابن زيد: ليمسّونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر:
ترميك مزلقةُ العيونِ بطرفها ... وتَكِلُّ عنك نِصالُ نَبْل الرامي
وقال آخر:
يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرًا يُزيل مواطئَ الأقدام
وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك.
وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم" انتهى.
وأما السنة ففيها التصريح بتأثير العين.
روى مسلم (2188) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا .
وروى أحمد (15550)، وابن ماجه (3509) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنْ الْجُحْفَةِ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ، وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ؟! قَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟! ثُمَّ قَالَ لَهُ: اغْتَسِلْ لَهُ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ" .
وعند ابن ماجه (3509): إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ والحديث صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
وروى مسلم (2198) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه قَالَ: لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: ارْقِيهِمْ قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْقِيهِمْ .
وروى الترمذي (2059) أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ العَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ القَدَرَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ ، قال الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
وروى أحمد (24486) عن عائشة قالت : دخل النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي فقال: مَا لِصَبِيِّكُمْ هَذَا يَبْكِي هَلاَّ اسْتَرْقَيْتُمْ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ والحديث حسنه الألباني في "صحيح الجامع" برقم(5662).
وكثير من الناس رأى تأثير العين وأنها تفلق الحجر، وتكسر الزجاج، ويسقط بها الإنسان ويموت بها الحيوان.
ثانيا:
لم يرد في النصوص بيان كيف تؤثر العين؟
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك، ومما قال: " فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة له؟
وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سبب وجهة تأثير العين.
فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر.
وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة، ولا سبب، ولا تأثير أصلا، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات، والأسباب وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام؛ فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة، إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً. ولهذا أمر الله - سبحانه - رسوله أن يستعيذ به من شره.
وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية.
فمنها: ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين.
ومنها: ما تؤثر في طمس البصر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: (إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل) .
ومنها: ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية، والرقى، والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل.
ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر) القلم/51، وقال: (قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد).
فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائنا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمَعِين، تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذرا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام؛ لم تؤثر فيه، وربما رُدَّت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح.
وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تَتْبعه كيفيةُ نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظره إلى المَعِين، وقد يَعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عُرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعا " انتهى من "زاد المعاد" (4/ 153).
فهذا تفسير لتأثير العين، وكيفما كان الأمر، فإن تأثيرها لا يشك فيه من نظر في السنة، أو كان له اطلاع على أحوال الناس.
وكل شيء مقدر ومكتوب، ومن ذلك تأثير الأسباب في مسبباتها، ومن أصيب بالحسد أو بالعين فلا يصاب به إلا بقدر الله، وكذلك السحر، كما قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ البقرة/102
والمشروع للعبد أن يأخذ بأسباب الوقاية من ذلك، فيستعيذ بالله من شر الحاسد، ويتحصن بأذكار الصباح والمساء، ويلجأ للرقية الشرعية إن أصيب.
وينظر في علاج العين والوقاية منها: جواب السؤال رقم:(20954)، ورقم:(7190)، ورقم: (45659)، ورقم:(146637).
والله أعلم.