قرأت في كتاب التوحيد أنّ يهودياً صحّح كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فما صحة هذا؟
الحمد لله.
عَنْ قُتَيْلَةَ، امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ: " أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ.
فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شِئْتَ".
رواه النسائي (3773)، وصححه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (14 /130–131)، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1/263).
وهذا الحديث ليس فيه تصحيح من اليهودي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعبارة: ( إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُون) غاية ما فيها أن اليهودي سمع من بعض الصحابة قولهم: " مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ "، " وَالْكَعْبَةِ ".
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَرِدْ أنه كان يقول مثل هذه العبارات، بل كان لا يحبها، فربما لم يسمعها منهم، وربما سمع بعضها، لكن لم يأته الوحي بالنهي عنها، فسكت عن الإنكار عليهم، كما يدل حديث حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: " أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ " .
رواه ابن ماجه (2118)، والإمام أحمد في "المسند" (34 / 296 - 297) من حديث طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا:" أَنَّهُ رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، كَأَنَّهُ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْيَهُودُ، قَالَ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ، وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ النَّصَارَى، فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟ - قَالَ: نَعَمْ -)، فَلَمَّا صَلَّوْا، خَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ، أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، قَالَ: لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ ، وصححه محققو المسند.
والنهي ليس بقول اليهودي، ولا عن تعليمه؛ بل ذلك كله من النبي صلى الله عليه وسلم، وقول اليهودي هو سبب بيانه للناس وتشريعه؛ فأحكام الشرع كانت تأتي بالتدريج، الأهم فالأهم، وكثير من الأحكام الشرعية، والتشريعات: كانت تنزل معلقة بأسباب نزول خاصة بها، ثم يكون الحكم بعد ذلك عاما.
وبكل حال؛ فإذا ثبت أن قول اليهودي هو السبب الذي من أجله شرع ذلك الحكم ؛ ففي ذلك مزيد حجة على هؤلاء اليهود ، وأنهم كانوا ظلمة يعرفون الحق ويصدون عنه ويحاربونه.
كما أن في هذا الحديث حكمة بالغة؛ فإنه لما حصل النزاع بين الصحابة الذين كانوا يستعملون مثل هذه العبارات وبين هذا اليهودي الذي عنده شيء من بقية دعوة الرسل السابقين، كان حكم النبي صلى الله عليه مصوبا لكلمة اليهودي رغم العداوة القائمة، وفي هذا بيان أن الإسلام جاء بالعدل والحق وقبوله من أي شخص كان، كما أرشد إلى هذا قوله تعالى:
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة/8.
قال الشيخ صالح الفوزان، حفظه الله: " الواجب على المسلم تجنب سنة اليهود والنصارى، وهي الكفر بالحق إذا كان مع من لا يحبه، فلا يحملك بغض الشخص على أن ترفض ما معه من الحق. ومثل هذا ما هو موجود الآن: إذا كانت طائفة أو جماعة تبغض أَحد العلماء، فإنّهم يرفضون ما معه من الحق، فيحملهم بغضهم لهذا العالم على أن يرفضوا ما معه من الحق، وأن يُعَتِّموا عليه، ويُزَهِّدوا فيه، ويُحَذِّروا من مؤلفاته، ومن أشرطته، ولو كانت حقاً. لماذا؟ لا لشيء إلاّ لأنهم لا يحبون هذا الشخص.
والواجب عليك أيها المسلم أن تقبل الحق، وإن كان مع من لا تحب، ولا تكون العداوات الشخصية والأهواء النفسية مانعة من قبول الحق.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه اليهودي، وقال: إنّكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشاء محمد أمر أن يقولوا: " ماشاء الله وحده " ولا يقولوا ما شاء الله وشاء محمد. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الحق، وأمر أَصحابه بترك الخطأ.
وكذلك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود وقال: إن الله يطوي السموات بيمينه، ويحمل الجبال على أصبع، والأرضين على أصبع ... إلى آخر الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لهذا الحبر، وأنزل الله قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ، فلما طابق قول هذا الحبر من اليهود الحق، قلبه النبي صلى الله عليه وسلم وسُرَّ به. الحاصل: أن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق، ولا تحمله عداوته الشخصية، وأغراضه النفسية، والإشاعات التي تشاع عن بعض أهل الحق، لا تحمله هذه الأمور على رفض ما يقوله هذا العالم بل ينتفع به، حتى ولو كان هذا العالم غير مستقيم، لو كان ما يقال فيه من الذم والعيب صحيحاً، إذا قال كلمة حق وجب أن تقبل، لا لأجل هذا الشخص، ولكن لأجل الحق، هذا هو الواجب. فيجب على طلبة العلم أن ينهجوا هذا المنهج الرباني، قبول الحق ممن جاء به" انتهى من "شرح مسائل الجاهلية"(129-131).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله:
" فيه أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يرد على صاحب الحق بأن عنده باطلا كما أن عند ذاك باطلا، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل، فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة والباطل لا يرد بباطل، وقد حصل كثير من البدع في تاريخ الإسلام، وحصلت الشبهات، وقويت بعض الضلالات بسبب أن من وجه بحق لم يتقبله ورده؛ لأن الذي واجهه بذلك الحق صاحب باطل، فلما لم يقبل الحق صار يوجه الأدلة ويؤولها؛ من أجل إبطال ذلك الحق". انتهى من"التمهيد شرح كتاب التوحيد"(465).
والله أعلم.