جبر الخواطر لفظ يستعمله العامة عندنا، ويقصد به إرضاء الناس، وتلبية حاجاتهم، فهل يوجد هذا اللفظ أو ما يشابهه فى المعنى فى الشرع؟
الحمد لله.
جبر الخاطر: يستعمله الناس بمعنى العطف على المحتاج، أو المصاب بمصيبة في نفس أو مال ونحو هذا، ومحاولة إدخال السرور على قلبه.
ونصوص الشرع وإن لم يرد فيها هذا المصطلح، إلا أنها حثت على هذا المعنى ورغبت فيه.
ويكفي لمعرفة مدى أهمية هذا الخلق وعظم فضله، أن نعلم أنه من أهم ما تميز به النبي صلى الله عليه وسلم .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كما وصفته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ لما رجع إليها النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء، كما روى البخارى (3)، ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "... فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي! فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ".
وبالمعنى الذي يشتمله جبر الخاطر وصفه الله تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ آل عمران/159.
وقال الله تعالى:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ التوبة /128.
وبجبر الخاطر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ الضحى/9–10.
فخلق جبر الخاطر من الخلق العظيم فيتناوله عموم قوله تعالى:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم/4.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) أي: عاليا به، مستعليا بخلقك الذي منّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه، فقالت: ( كان خلقه القرآن )، وذلك نحو قوله تعالى له: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )، ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) الآية، ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )، وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلّها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا له إلا أتمّ عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَه، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم " انتهى من "تفسير السعدي" (ص879).
ونحن مأمورون بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال الجميلة.
قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا الأحزاب/21.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله...
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: ( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً )" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/391).
ويكفيك من ذلك كله، في هذا المقام، أن تنظر في حديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ... رواه مسلم (2699).
والله أعلم.