الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث ورد في عدد من المصنفات الحديثية؛ لكن كل أسانيده لا تخلو من ضعف، وأمثلها وأقواها:
ما رواه البزار في "المسند" (17/227)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/342)، وغيرهما: عن مُوسَى بْن دَاوُدَ، حدثنا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على بلال وعنده صُبرٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقَالَ: أدخره.
فَقَالَ: (أَمَا تخشى أن ترى لَهُ بُخَارًا فِي نار جَهَنَّمَ؟ أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تخش مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا).
ثم قال البزار: " وَهَذَا الحديثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ، عن مُحَمَّد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَّا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ " انتهى.
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" رواه الطبراني في الكبير، وفيه مبارك بن فضالة، وهو ثقة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح " انتهى من "مجمع الزوائد" (3/126).
لكن مبارك هذا موصوف بالتدليس، ولم يصرح بالتحديث والسماع.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" سئل أبو زرعة عن مبارك بن فضالة، فقال: يدلس كثيرا، فإذا قال حدثنا فهو ثقة " انتهى من "الجرح والتعديل" (8/339).
وعدّه ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين الذين لا يقبل منهم إلا ما صرحوا فيه بالتحديث، وقال: " مبارك بن فضالة البصري مشهور بالتدليس، وصفه به الدارقطني وغيره، وقد أكثر عن الحسن البصري " انتهى من "تعريف اهل التقديس" (ص 43).
كما أُعِلّ هذا الإسناد بالإرسال، حيث قال البيهقي رحمه الله تعالى:
" ورواه مبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، موصولا.
وخالفه بشر بن الفضل، ويزيد بن زريع، فروياه عن يونس، مرسلا " انتهى من "شعب الإيمان" (2 / 484).
ورواه أبو يعلى في "المسند" (10 / 429)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/342)، وغيرهما: عن بِشْر بْن سَيْحَانَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ، حدثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ بِلَالًا... ) فذكر الحديث.
لكن أبو نعيم الأصبهاني، قال:
" غريب من حديث هشام، تفرد به حرب " انتهى. من "حلية الأولياء" (6/274).
ولمّا ساق إسناد الحديث ميّز حرب بن ميمون، بأنه صاحب الأغمية، لأن هناك حرب بن ميمون آخر وقد وثّق، فأحيانا قد يخلط بينهما، وربما لهذا حسّن هذا الإسناد بعضهم.
وأما حرب هذا صاحب الأغمية، فقد ضعّف، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" حَرْب بن ميمون الأصغر، أبو عبد الرحمن البَصْريُّ، صاحب الأغْمِيَةِ، وهي السقوف: متروكُ الحديث مع عِبادته، ووَهِمَ من خَلَطَهُ بالأول - حرب ابن ميمون الأكبر أبو الخطاب الأنصاري مولاهم البصري صدوق -" انتهى من"تقريب التهذيب" (ص155).
ورواه البزار في "المسند" (17 / 249)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/341) وفي "الأوسط" (3/86):
عن بَكَّار بْن مُحَمَّدٍ السِّيرِينِيّ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ صُبَرًا مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟... ) الحديث.
وحسّنه البوصيري في "اتحاف الخيرة" (4/178)، حيث قال:
"ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن " انتهى.
وكذا قال الهيثمي في "المجمع" (3/126).
لكن بَكَّار بْن مُحَمَّدٍ السِّيرِينِيّ: ضُعّف.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" سُئِل يحيى بن معين عن بكار السيريني قال: كتبت عنه وليس به بأس.
سألت أبي عن بكار السيريني، فدفعه، وقال: لا يسكن القلب عليه، مضطرب.
سألت أبا زرعة عن بكار السيريني فقال: قد كتبت عنه، وهو ذاهب، روى أحاديث مناكير، ولا أحدث عنه. حدث عن ابن عون بما ليس من حديثه " انتهى من "الجرح والتعديل" (2 /409 – 410).
وما قاله أبو زرعة في رواية بكار عن ابن عون، قال مثله ابن عدي في "الكامل" (2/222)، وابن حبان في "المجروحين" (1/197).
وقد خالفه إسماعيل بن عليه فرواه عن ابن سيرين مرسلا، كما في "الزهد" للإمام أحمد" (ص 66)، قال: حدثنا إسماعيل، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ: ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَأَى عِنْدَهُ صُبَرًا مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ ) الحديث.
وقال البيهقي رحمه الله تعالى:
" ورواه بكار ابن محمد بن ميمون، عن ابن عون، عن محمد، عن أبي هريرة، موصولا، وخالفه معاذ بن معاذ، ومحمد بن أبي عدي، فروياه، عن ابن عون، مرسلا " انتهى. "شعب الإيمان" (2 / 484 - 485).
ورواه البزار في "المسند" (5/348)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/340)، وغيرهما: عن قَيْس بْن الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: ( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صَبْرٌ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟ ... ) الحديث.
وفيه قيس بن الربيع، متكلم فيه.
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة، والثوري، وفيه كلام، وبقية رجاله ثقات "انتهى من "مجمع الزوائد" (3/126).
ولخص حاله الذهبي بقوله:
" قيس بن الربيع الأسدي الكوفي، صدوق سيء الحفظ" انتهى من "المغني" (2/526).
فالحاصل: أن كل أسانيد هذه الحديث فيها ضعف.
قال العراقي رحمه الله تعالى:
" حديث: نهى بلالا عن الادخار وقال: ( أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا ).
رواه البزار من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وبلال: دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صبر من تمر، فقال ذلك. وروى أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" حديث أبي هريرة، وكلها ضعيفة " انتهى من "المغني" (2/1130).
لكن من أهل العلم من حسّن بعضها كما سبق، وقد صححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه، حيث قال:
" وجملة القول أن الحديث صحيح بمجموع طرقه " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (6/350).
وينظر: "المطالب العالية" لابن حجر، وحاشية تحقيقه (12/8273-278).
ثانيا:
من يرى ضعف الحديث، وهو الأقرب فيه إن شاء الله: لا يتصور عنده الإشكال الذي طرحته.
وأما من صححه، أو حسنه، فسيتعارض ظاهره مع النصوص الدالة على أن الواجب في المال إنما هو الزكاة، كما في حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قال: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ) رواه البخاري (46)، ومسلم (11).
والواجب هو الجمع مع النصوص متى أمكن ذلك.
وأقرب ما يوجه به حديث بلال رضي الله عنه، هو أن الحديث لم ينص على تحريم هذا الادخار، وإنما خشي من عاقبته، كما توحي عبارة: (أَمَا تخشى أن ترى لَهُ بُخَارًا فِي نار جَهَنَّمَ؟). فالمسلمون في عصر النبوة وخاصة قبل فتح خيبر، كانوا في ضيق وشدة، فكان المال فيهم قليلا، وكان المهاجرون والوافدون الفقراء يقدمون المدينة، فيستقرون في الصفة، وليس لهم طعام، فربما جر الادخار إلى ترك الواجب من إغاثة الملهوف، أو التقصير في حق عابر السبيل من هؤلاء الوافدين، أو تضييع حق الجار والقريب، ونحو هذا؛ فبالإنفاق يتقي صاحب المال جميع الأمور المشتبهة فيكون سائرا على سبيل النجاة الواضح.
فيكون هذا الخبر من نفس باب حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ المَاضِي؟ قَالَ: كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ العَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا ) رواه البخاري (5569)، ومسلم (1974).
قال أبو الحسن المباركفوري رحمه الله تعالى:
" قوله: (أنفق بلال) أي يا بلال، (ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) أي فقراً أو إعداماً، وهذا أمر بتحصيل مقام الكمال، وإلا فقد جوز ادخار المال سنة للعيال، وكذا الضعفاء الأحوال.
وما أحسن موقع ذي العرش في هذا المقام، أي: أتخشى أن يضيع مثلك من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. قاله الطيبي.
وقيل: إن هذا الحديث ونحوه كان في صدر الإسلام حين كان الادخار ممنوعا، ثم نسخ النهي وأبيح الادخار" انتهى من "مرعاة المفاتيح" (6/317).
وما ذكره في آخر كلامه، جزم به السيوطي في تعليقه على الحديث، قال:
" هَذِهِ الْأَحَادِيث كَانَتْ فِي صدر الْإِسْلَام، حِين كَانَ الادخار مَمْنُوعًا، والضيافة وَاجِبَة، ثمَّ نسخ الْآن.
وإِنَّمَا يدْخل الدخيل عَلَى كثير مِنَ النّاس، لعدم علمهمْ بالنسخ ". انتهى من "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/266).
والله أعلم.