الحمد لله.
الخليفة العباسي المأمون هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، العباسي القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها: مراجل الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة.
تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر.
كان فيه شهامة عظيمة، وقوة جسيمة في القتال، وحصار الأعداء، ومصابرة الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول: كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجَّاب، وأنا بنفسي.
وكان يتحرى العدل، ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل.
يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/217): "وقد كان فيه تشيع واعتزال، وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع السواد، ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون، وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي، ثم ظفر المأمون بهم، واستقام له الحال في الخلافة.
وكان على مذهب الاعتزال، لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي، فخدعوه، وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل.
وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهرا، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته".
وقد بين ابن كثير بعد هذا، برواية نقلها عن ابن عساكر: أن تشيع المأمون كان: "ثاني مراتب التشيع، وفيه تفضيل علي على الصحابة" البداية والنهاية (14/222).
وقد قال جماعة من السلف والدارقطني: من فضل عليا على عثمان؛ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: في اجتهادهم ثلاثة أيام، ثم اتفقوا على عثمان، وتقديمه على علي بعد مقتل عمر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصحابة: " فعلموا من تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، بطول المشاهدة والتجربة والسماع، ما أوجب تقديمه وطاعته.
ولهذا قال عمر رضي الله عنه؛ ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. أراد أن فضيلته على غيره ظاهرة مكشوفة، لا تحتاج إلى بحث ونظر. ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار: أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يُقِرُّونه على ذلك، ولا ينازعه منهم أحد، حتى إن المنازعين في الخلافة من الأنصار لم ينازعوا في هذا، ولا قال أحد بل علي أو غيره أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خير منه أو أفضل.
ومن المعلوم أنه يمتنع في العادة، لا سيما عادة الصحابة المتضمنة كمال دينهم وقولهم بالحق: ألا يتكلم أحد منهم بالحق، المتضمن تفضيل علي؛ بل كلهم موافقون على تفضيل أبي بكر من غير رغبة فيه ولا رهبة" انتهى من"منهاج السنة" (4/365-366).
لكن في الوقت نفسه، فليس هذا هو التشيع الغالي مثل تشيع الرافضة والإسماعيلية، فهو وإن كان بدعة، لكنه ليس من مثل بدعة الرافضة والباطنية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وكذلك التشيع المتوسط - الذي مضمونه تفضيل علي وتقديمه على غيره، ونحو ذلك: لم يكن هذا من إحداث الزنادقة.
بخلاف دعوى النص فيه والعصمة؛ فإن الذي ابتدع ذلك كان منافقا زنديقا" انتهى من "مجموع الفتاوى" (17/446-447).
وبالتالي فهذه الرتبة من التشيع، إذا وضعناها في ميزان العدل؛ فليست هي أكبر بدع المأمون، بل كما يقول ابن كثير: "وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار، البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي: القول بخلق القرآن، مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر، وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر" البادية والنهاية(14/223).
والله أعلم.