الحمد لله.
من المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحمة للناس، ومن رحمته أنه لم يكن لعانا.
قال الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) الأنبياء/107.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " يخبر تعالى أن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ...
وقال مسلم في صحيحه ... عن أبي هريرة قال: ( قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة ). " انتهى من "تفسير ابن كثير" (5 / 385).
وروى البخاري (6031) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: " لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ).
والنبي صلى الله عليه وسلم كان على خلق عظيم، ومن عظم خلقه، أنه لم يكن يغضب لنفسه، وإنما يغضب عند وقوع ما يخالف الشرع.
روى البخاري (3560)، ومسلم (2327) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: ( مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ بِهَا ).
ففي غضبه قد يقع منه لعن لشخص يرى أنه يستحقه في ظاهر الأمر.
وعلى هذا يحمل ما وقع من لعن، وهي قضايا نادرة، ومع هذا قد طلب من الله تعالى أن يكون هذا اللعن كفارة لصاحبه وأجرا.
كما عند الإمام مسلم (2600) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا، وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ، قَالَ: (وَمَا ذَاكِ؟) قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا.
قَالَ: ( أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللهُمَّ! إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا ).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" فدعا الله تعالى، ورغب إليه في أنه: إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق؛ في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء، وأن يعوِّضه من ذلك مغفرة لذنوبه ورفعة في درجاته، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بذلك، فلزم ذلك بوعده الصدق وقوله الحق، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( شارطت ربي )، و ( شرط علي ربي )، و ( اتخذت عنده عهدا لن يخلفنيه )... " انتهى من "المفهم" (6 / 584).
فبهذا يظهر أن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من لعن لبعض الأشخاص لا يعد معصية ولا كبيرة؛ لأن اللعن الذي يعد من كبائر الذنوب هو ما كان على وجه الظلم والاعتداء. وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من هديه اللعن أصلا، وما وقع منه فهو نادر، وعلى وجه الاجتهاد، ومع ذلك، فقد احتاط، فطلب من الله تعالى أن يجعل هذا اللعن للمؤمن كفارة له، وهذا محض إحسان منه صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الاحسان كبيرة؟!
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" فإن قيل: فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن أو سب، أو جلد لغير مستحقه، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب والرضا؛ لأنَّ كل ذلك محرم، وكبيرة، والأنبياء معصومون عن الكبائر، إما بدليل العقل، أو بدليل الإجماع، كما تقدَّم؟
قلت: قد أشكل هذا على العلماء، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة، أوضحها وجه واحد، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لِما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع، فغضبه لله تعالى لا لنفسه، فإنَّه ما كان يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وقد قررنا في الأصول: أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله.
وعلى هذا فيجوز له أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه، وذلك بحسب مخالفة المخالف.
غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة، أو غلبة نفس، أو شيطان، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص، وحال صادق، يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول أو الفعل.
وعن هذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورا )..." انتهى من "المفهم" (6 / 584).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" فإن قيل: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟
فالجواب: ما أجاب به العلماء، ومختصره وجهان:
أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى، وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له؛ فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية، كقوله: ( تربت يمينك )، ( وعقرى )، ( حلقى )، وفي هذا الحديث: ( لا كبرت سنك )، وفي حديث معاوية: ( لا أشبع الله بطنه )، ونحو ذلك، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيءٌ من ذلك إجابةً، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (16 / 152).
والله أعلم.