أرجو من فضيلتكم أن تشرح لنا هذا الحديث : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
الحمد لله.
هذا الحديث رواه أحمد (4987) وأبو داود (3462) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.
إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ العينة: حيلة يحتال بها بعض الناس على التعامل بالربا، فالعقد في صورته: بيع، وفي حقيقته: ربا.
وبيع العينة: أن يبيع الشيء بالآجل، ثم يشتريه نقداً بثمن أقل، كما لو باعه سيارة بعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، ثم اشتراها منه بتسعة آلاف فقط نقدا. فصارت حقيقة المعاملة أنه أعطاه تسعة آلاف وسيردها له عشرة آلاف بعد سنة، وهذا هو الربا، ولهذا كان هذا العقد (بيع العينة) محرماً.
وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ يعني: للحرث عليها. لأن من يحرث الأرض يكون خلف البقرة ليسوقها.
وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ليس المراد بهذه الجملة والتي قبلها ذم من اشتغل بالحرث واهتم بالزرع. وإنما المراد ذم من اشتغل بالحرث ورضي بالزرع حتى صار ذلك أكبر همه، وقدم هذا الانشغال بالدنيا على الآخرة، وعلى مرضاة الله تعالى، لا سيما الجهاد في سبيل الله.
وهذا كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي: تكاسلتم وملتم إلى الأرض والسكون فيها. أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ أي: إن فعلتم ذلك، فحالكم حال من رضي بالدنيا وقدمها على الآخرة، وسعى لها، ولم يبال في الآخرة. فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ التوبة/38.
فمهما تمتع الإنسان في الدنيا، وفعل ما فعل في عمره، فهذا قليل إذا ما قورن بالآخرة، بل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها لا نسبة لها في الآخرة.
فأي عاقل هذا الذي يقدم متاعاً قليلاً زائلاً، مليئاً بالأكدار، على نعيم مقيم لا يزول أبداً ! انظر: "تفسير السعدي" ص 374.
وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ يعني تركتم ما يكون به إعزاز الدين، فلم تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم، ولا بأنفسكم، ولا بألسنتكم.
سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا أي: عاقبكم الله تعالى بالذلة والمهانة، جزاءً لكم على ما فعلتم، من التحايل على التعامل بالربا، وانشغالكم بالدنيا وتقديمها على الآخرة، وترككم الجهاد في سبيل الله، فتصيرون أذلة أمام الناس.
قال الشوكاني رحمه الله: "وسبب هذا الذل ـ والله أعلم ـ أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله، الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه، وهو إنزال الذلة بهم" انتهى.
حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ أي: يستمر هذا الذل عليكم، حتى تعودوا إلى إقامة الدين كما أراد الله عز وجل، فتطيعوا الله في أوامره، وتجتنبوا ما نهاكم الله عنه، وتقدموا الآخرة على الدنيا، وتجاهدوا في سبيل الله.
والحديث يدل على الزجر الشديد والنهي الأكيد عن فعل هذه المذكورات في الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك بمنزلة الردة، والخروج عن الإسلام، فقال: حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.
وفيه أيضاً: الحث الأكيد على الجهاد في سبيل الله، وأن تركه من أسباب ذل هذه الأمة أمام غيرها من الأمم، وهذا هو واقع الأمة اليوم، للأسف الشديد، نسأل الله تعالى أن يمن علينا وعلى المسلمين جميعا بالرجوع إلى هذا الدين، وهدايتنا وتوفيقنا إلى العمل به، على الوجه الذي يُرضي الله عز وجل.
والله أعلم.
المراجع:
سبل السلام للصنعاني (3/63، 64)،
نيل الأوطار للشوكاني (6/297 – 299).
شرح بلوغ المرام للشيخ ابن عثيمين (4/36 – 39).