الحمد لله.
أولاً :
الروابط التي تجمع أفراد القبيلة أو الأسرة أمرٌ مشروع في أصله ، ويُرجى أن يكون فيه خير إذا خلا من المحاذير الشرعية .
وقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى ، قال عز وجل : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة/2 .
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على " الأشعريين " - وهم قوم من اليمن - كانوا إذا قلَّ طعامهم سفراً أو حضراً اجتمعوا فجاء كل واحدٍ منهم بما يملك ثم تقاسموا ما يجمعونه بينهم .
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية ، فهم مني وأنا منهم ) رواه البخاري ( 2384 ) ومسلم ( 2500 ) .
قال النووي :
" وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين , وفضيلة الإيثار والمواساة , وفضيلة خلط الأزواد في السفر , وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر , ثم يقسم " انتهى .
" شرح مسلم " ( 16 / 62 ) .
والصناديق التعاونية التي تقيمها القبائل والأسر ويتم جمع اشتراكات من أفرادها ، ثم الصرف على المحتاجين حسب الشروط التي يحددونها أمر مشروع وهو يشبه فعل الأشعريين ، لكنه استباق لأمر المصيبة قبل وقوعها ؛ ليتم التعاون على حلها ، فيخف مصاب صاحبها .
ويجب على المشتركين فيها أن يكون قصدهم التعاون فيما بينهم لا الاستفادة والربح , فقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن إحدى هذه الجمعيات , فأجاب :
" اطلعت على بنود الجمعية فلم أر فيها ما يمنع إنشاءها إذا كان مقصود المشترك التعاون دون التعويض والاستفادة من الصندوق , لأنها بنية التعاون تكون من باب الإحسان , وبنية التعويض والاستفادة من الميسر المحرم " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (18/183) .
ومن المحاذير التي يمكن أن يقع فيها أهل تلك الروابط ما يكون بينهم من العصبية الجاهلية لنسبهم أو لغتهم ، وما يكون في اجتماعاتهم من محرمات كشرب الدخان وسماع الغناء – مثلاً – وما يكون من إعانة صاحب المعصية على معصيته ، أو الوقوف بجانب الظالم لمجرد أنه منتسب إليهم ، وكذا ما يكون من استثمار للأموال المجموعة في مشاريع محرمة أو في بنوك ربوية .
وأما الوقوف بجانب المظلوم أو صاحب الحاجة أو المتضرر من حادث أو مرض أو المساهمة في دفع دية الخطأ أو شبه العمد أو إعانة العزاب على الزواج وأمثال ذلك من أعمال البر والطاعة فهو أمر يشكرون عليه ويستحقون الدعم والمؤازرة .
ثانياً :
وأما صنع الطعام في الجنائز , فإن المشروع أن يصنع أقارب أهل الميت وجيرانهم الطعام لأهل الميت ، لأنهم جاءهم ما يشغلهم عن إعداد الطعام لأنفسهم .
فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ) رواه أبو داود ( 3132 ) والترمذي ( 998 ) وابن ماجه ( 1610 ) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود .
قال المباركفوري :
"والمعنى : جاءهم ما يمنعهم من الحزن عن تهيئة الطعام لأنفسهم فيحصل الهم والضرر وهم لا يشعرون ، قال الطيبي : دلَّ على أنه يستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لأهل الميت انتهى ، قال ابن العربي في " العارضة " : والحديث أصل في المشاركات عند الحاجة " انتهى .
" تحفة الأحوذي " ( 4 / 67 ) .
والمحذور هو صنع أهل الميت العام للمعزين ، لقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه : ( كُنَّا نَعُدُّ الاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ ) رواه أحمد (6866) صححه الألباني في "أحكام الجنائز" .
لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، كما لو جاء للتعزية أناس من بعيد فلا حرج من صنع الطعام لهم ، على أن يكون ذلك على قدر الحاجة ، ولا يكون فيه إسراف ولا مباهاة ، ويكون للمسافرين فقط ، ولا يُدعى إليه كل من حضر الجنازة كما يفعل البعض .
قال ابن قدامة في "المغني" (3/496) :
" فأما صنع أهل الميت طعاما للناس , فمكروه ; لأن فيه زيادة على مصيبتهم , وشغلا لهم إلى شغلهم , وتشبها بصنع أهل الجاهلية . . .
وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز ; فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة , ويبيت عندهم , ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه " انتهى .
وقال الشيخ ابن باز :
" أما أهل الميت فليس لهم صنع الطعام للناس ؛ أما إذا صنعوا ذلك لأنفسهم أو لضيوف نزلوا بهم فلا بأس " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (13/392) .
ثالثاً :
وقد ذكرت في سؤالك أن المال المجموع تخرج زكاته إلى المحتاجين من أبناء العائلة , وهذا المال لا زكاة فيه ، فقد سئل الشيخ محمد بن العثيمين رحمه الله عن مثل هذه الجمعية وإخراج الزكاة من صندوقها فأجاب :
" أموال هذا الصندوق ليس فيها زكاة , لأنها خارجة عن ملك المشتركين فليس لها مالك معين , ولا زكاة فيما ليس له مالك معين " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (18/184) .
وعلى أهل العلم والاستقامة أن يشاركوا في هذه الروابط لنصحهم وتوجيههم ، وتحذيرهم من الوقوع في المعاصي والآثام ، وإعانتهم على البر والتقوى .
والله أعلم .