الجميع يسألونني وزوجتي عن حملها ؟ وهل لدينا أي مشاريع ؟ وهل من جديد ؟ ومتى موعد الولادة ؟ ولا يتوقفون عن التخمين وتوجيه أسئلة من هذا النوع ، وأحيانا علناً وبصوت مرتفع ، مما يسبب لنا إحراجاً شديدا ، حيث إنني وزوجتي شديدا الخجل . ونود أن نسأل : هل يجوز للناس السؤال عن أشياء شديدة الخصوصية مثل هذه ، وهل مطلوب منا أن نعلن الحمل ، هل هذه مسألة عامة ؟ نحن نعتقد أنها مسألة خاصة ونريد أن نحتفظ بخصوصيتها إلى النهاية ، وإذا رزقنا الله بطفل فسوف نعلن عن ولادته . ونعتقد أن ذلك يتعارض مع الحياء والخصوصية ، وقد تكون له نتائج كثيرة . أحد الإخوة تكدر كثيرا عندما طلبت منه أن لا يسأل ، هل يتعين علي أن أخبره أن زوجتي حامل الآن وتنتظر طفلا . أرجو النصيحة مع ذكر المراجع وشكرا .
الحمد لله.
يتجاوز كثير من الناس الأدب في حديثهم مع الآخرين ، ولا يراعون في ذلك خلقا ولا حياء ، وسببه الجهل وقلة الاهتمام بالتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، ومن ذلك ما يقع فيه الكثيرون من التدخل فيما لا يعنيهم ، والسؤال عن أمور الناس الخاصة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ) رواه الترمذي (2317) وصححه الألباني .
يقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/114-116) :
" وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال : جماع آداب الخير وأزِمَّتُه تتفرع من أربعة أحاديث :
قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )
وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية : ( لا تغضب )
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
ومعنى هذا الحديث : أن مَنْ حسُنَ إسلامه تَركَ ما لا يعنيه من قول وفعل ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ، ومعنى يعنيه أن تتعلق عنايته به ، وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام .
وفي المسند [ 1/201 ] من حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه ) [ قال الأرناؤوط : حسن لشواهده ] ...
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : " من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " ، وهو كما قال ، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا يتحرى . وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم ، فقال : ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) النساء/114
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(كل كلام ابن آدم عليه لا له : إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل ) [ ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي ] .
وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري فقال سفيان : وما يعجبكم من هذا ؟! أليس قد قال الله تعالى : ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ )
وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال :
توفى رجل من أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : أبشر بالجنة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو لا تدري !؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه ، أو بخل بما لا يغنيه ) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3103)
وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها أنه قتل شهيدا " انتهى باختصار .
ويقول المناوي في "فيض القدير" (7/3) :
" يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره ، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه ، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسئول ، فإنه قد لا يؤثر إخباره بأحواله ، فإن أخبره شق عليه ، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة ، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب " انتهى .
وجاء من الآثار عن بعض السلف ما يدل على هذا الأدب :
قال عمرو بن قيس الملائي :
( مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال : بلى . قال : الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال : بلى . فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، وطول السكوت عما لا يعنيني )
وقال مُوَرِّق العِجْلي :
أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة ، لم أقدر عليه ، ولست بتارك طلبه أبدا ، قالوا : وما هو ؟ قال : الكف عما لا يعنيني .
رواهما ابن أبي الدنيا
وروى أبو عبيدة عن الحسن البصري قال : من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ، خذلانا من الله عز وجل .
وفيما سبق دعوة للناس كي يتخلقوا بهذا الأدب العظيم ، والخلق الرفيع ، ويتعاملوا بينهم بما كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهدي سادات الأولياء والصالحين .
وللمزيد حول هذا الأدب الرفيع الضائع بين كثير من الناس ، يمكن مراجعة شرح الحديث الثاني عشر من جامع العلوم ، لابن رجب الحنبلي رحمه الله ، وهناك بحث نفيس بعنوان " معلم في تربية النفس : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه " تأليف : عبد الطيف بن محمد الحسن ، من سلسلة كتاب البيان ، الصادر عن المنتدى الإسلامي في لندن .
والله أعلم .