شيخنا الفاضل لدي زميل بالعمل ( أجنبي الجنسية ) تأذيت كثيراً من كلماته ، وشتمه للغير ، وحتى رقصات أنغام جواله التي طالما آذاني بها ، وعندما حدثته بذلك قال : هذا ليس من شأنك ، وأنا الآن قطعت العلاقة معه بسبب موقف بيننا ، وإذا دخلت مكتبي أسلم بصوت عال ، ولا يرد ، وإذا دخل هو لا يسلم ، فهل أنا ملزم بأن أمد يدي لمصافحته ، علماً بأنني رأيت بعيني أنه لا يهتم ، وسبق أن صافحه أحدهم وهو جالس ولم يكلف نفسه حتى بالوقوف بسبب زعل منه على ذاك الرجل ، فهل الإسلام يجبرني على أن أصافحه وهو بهذه الأخلاق التي ذكرت ؟ علماً أنه لا يتكلم مع أشخاص آخرين في العمل ، وأنا لست أول من يفعل هذا معه . أرجو الإجابة لأني أحس بتأنيب ضمير ، وأخاف من حديث " لا يرفع العمل بسبب الخصومة " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
الحمد لله.
الهجر الذي يكون بين متخاصمين من المسلمين نوعان :
الأول : هجر لحظِّ النفس ، أو على أمرٍ دنيوي .
والثاني : هجر لحقِّ الله ، بأن يكون من أجل وقوع المهجور في بدعة أو معصية .
وحكم الهجر الأول : أنه غير مشروع ، بل هو منهي عنه .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ ) .
رواه البخاري ( 5726 ) ومسلم ( 2559 ) – واللفظ له - .
وهذا الهجر لا يجوز أكثر من ثلاث ليال كما سبق في الحديث .
وأما حكم الهجر الثاني : فهو هجر مشروع ، وله أدلته من السنَّة ، وقد فعله الصحابة ، ومن بعدهم من أئمة الدين ، وله شروط وضوابط في كلام أهل العلم .
فقد هجر النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ، وقد جاء حديثهم الطويل في الصحيحين من حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه – وهو أحد الثلاثة .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في سياق ذِكر فوائد الحديث :
وفيها : ترك السلام على من أذنب ، وجواز هجره أكثر من ثلاث ، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث : فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيّاً ... .
وفيها : سقوط رد السلام على المهجور عمَّن سلَّم عليه ؛ إذ لو كان واجباً : لم يقل " كعب " هل حرَّك شفتيه – أي : النبي صلى الله عليه وسلم - برد السلام .
" فتح الباري " ( 8 / 124 ) .
فيتبين لنا من سياق الحديث – ولم نسقه لطوله – أن من أحكام الهجر الشرعي : جواز ترك إلقاء السلام وترك ردِّه على صاحب المعصية – وصاحب البدعة أولى - ، وأن هجره غير محدد بوقت ، بل يكون ذلك إلى أن يتوب ، أو حيث يرى الهاجر المصلحة في ذلك – كما سيأتي - ، وبه تعلم أن ترك مصافحتك لذلك العاصي ، بل ترك للسلام عليه بلسانك أنه ليس فيها محذور شرعي عليك ، وإليك ما يزيد الأمر توكيداً :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومَن عُرف منه التظاهر بترك الواجبات ، أو فعل المحرمات : فانه يستحق أن يُهجر ، ولا يسلَّم عليه تعزيراً له على ذلك حتى يتوب .
" مجموع الفتاوى " ( 23 / 252 ) .
لكن لا بدَّ من التنبيه على أن الهجر للعاصي والمبتدع إنما شرِع لحكمٍ عظيمة ، ومنها أن هجره هو لتأديبه حتى يترك معصيته وبدعته ، وكذا شُرع تنبيهاً لغيره أن يقع في المعصية أو البدعة ، وحيث كان الهجر غير مجدٍ مع هذا العاصي ، أو أنه سيزيده طغياناً : فلا ينبغي الهجر ؛ لما يترتب عليه من آثار سيئة على المهجور ، أو أنه لن يتحقق ما شُرع الهجر من أجله ، وهنا يكون التأليف لقلب هذا العاصي أنفع من الهجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم ، وضعفهم ، وقلتهم ، وكثرتهم ؛ فإن المقصود به : زجر المهجور ، وتأديبه ، ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته : كان مشروعاً ، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك ، بل يزيد الشر ، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته : لم يشرع الهجر ، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر .
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين ، كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم ؛ لما كان أولئك كانوا سادة مُطاعون في عشائرهم ، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم ، وهؤلاء كانوا مؤمنين ، والمؤمنون سواهم كثير ، فكان في هجرهم عزُّ الدين ، وتطهيرهم من ذنوبهم ، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة ، والمهادنة تارة ، وأخذ الجزية تارة ، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .
" مجموع الفتاوى " ( 28 / 206 ) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
ما ضابط هجر العاصي الذي لم تظهر معصيته علانية للناس إذا كان في هجره مصلحة ؟ .
فأجاب :
الضابط : أن هجر العاصي إن كان فيه مصلحة بحيث يرجع العاصي عن معصيته : فليهجر ، وأما إذا لم يكن فيه مصلحة : فهجره حرام ؛ لأن العاصي مسلم ، ولو فعل ما فعل من الكبائر ، إلا الكفر إذا كَفَر ، هذا معلوم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، يلتقيان ، ويعرض هذا ، ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) ، فلا تهجره ؛ ولأن بعض العصاة إذا هجرته : زاد في معصيته ، وكرِهك أيضاً ، ولم يقبل منك أي نصيحة ، أما لو كان هجره ينفع ، كما لو كان أحد الأبناء ، أو أحد الإخوة وهو يقدِّرك ، وإذا هجرته ارتدع : فهنا اهجره حتى يرتدع ، فإن أخلف الظن - بمعنى: أنك هجرته ولكنه لم يرتدع - : فعُد ، وسلِّم عليه ، ولا تنس النصيحة .
" لقاءات الباب المفتوح " ( 231 / السؤال رقم 9 ) .
فأنت أخي السائل إن رأيتَ أن تركك للسلام عليه سيؤثر فيه ، وسيرتدع عن معاصيه بسببه : فاستمر على هجرك له ، واترك إلقاء السلام ، وردِّه إن سلَّم ، وإن رأيتَ أن ذلك غير نافعه : فاعلم أن تأليفك لقلبه بالهدية ، والتبسم في وجهه ، والتلطف في مخاطبته أنفع من هجره ، فاعمل على ذلك ، فإن أبى منك ذلك ، ولم يتجاوب معك : فليس عليك شيء ، ولست ملوماً في ذلك .
وفي مسند الإمام أحمد (15823) عن هِشَامَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَإِنْ كَانَ تَصَارَمَا فَوْقَ ثَلاثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنْ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا فَسَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا !! ) صححه الألباني في الصحيحة 1246
نسأل الله تعالى أن يكتب لنا ولك الأجر ، وأن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى .
والله أعلم