الحمد لله.
قد يأذن الله تعالى لبعض الناس في أن يعلم شيئاً من الأمور التي غابت عن غيره ، وأسباب ذلك يمكن أن نجملها في نوعين :
أسباب شرعية من الله ، وأسباب شيطانية .
فالأول : الأسباب الشرعية ، وتتضمن :
1. الكتب المنزلة وكلام أنبيائه ، وعامتها قد نالها التحريف والتبديل ولم يبق منها سالماً من ذلك إلا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة . .
2. الإلهام والتحديث ، بأن يُلقى الشيء في قلب الإنسان ، أو يسمع صوتا يحدثه به .
3. الرؤى التي هي من الله .
والثاني : الأسباب الشيطانية , وتتضمن :
1. النفوس الشريرة التي تستعين بالجن والشياطين , كالسحرة والكهنة والعرافين .
2. المنامات الشيطانية .
3. نفثات الشياطين وتحديثهم حال اليقظة .
وذلك أن الشيطان قد يستمع بعض ما تتحدث به الملائكة في السماء مما أمر الله تعالى به أن يكون ، فيلقيها الشيطان على وليه من الإنس ، وذلك هو المراد بقوله تعالى على لسان الجن : ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) الجن/9. فأحيانه يدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وأحيانا يدركه بعد أن ألقاها .
وكل هذا يمكن أن يُطلق عليه اسم : " الكشف" , لأن الكشف هو " الاطلاع على ما وراء الحجاب ، من المعاني الغيبية ، والأمور الخفية ، وجوداً ، أو شهودا " انتهى من " الموسوعة العقدية " موقع الدرر السنية (1/114) .
فمن اطلع على الغيب بالأسباب
الشرعية فلا حرج عليه على أقل تقدير , إن لم يكن مأجوراً مكرماً .
ومن اطلع على الغيب من نوافذ الضلال والطرق الشيطانية فقد يكون على خطر أو ملابساً
للإثم أو الكفر .
ينظر جواب السؤال رقم : (12778) .
والكشف الصوفي في نسخته الأخيرة التي درج عليها كثير من متأخري الصوفية : " يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي ، وبصره ، ليعلم ما في السماوات جميعاً ، وما في الأرض جميعًا " انتهى من " الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة " لعبد الرحمن عبد الخالق (1/146) .
ومثل هذا لا يجوز لمسلم أن
يعتقده ؛ لأن معناه أن الصوفي قد يعلم الغيب المطلق كمال العلم ، فلا يغيب عنه شيء
، وهذا من خصائص الله تعالى لا يشاركه فيها أحد من الخلق .
جاء في " الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة " (1/261-262) : " ويعتمد
الصوفية الكشف مصدراً وثيقاً للعلوم والمعارف ، بل تحقيق غاية عبادتهم ، ويدخل تحت
الكشف الصوفي جملة من الأمور الشرعية والكونية ، منها :
1ـ النبي صلى الله عليه وسلم : ويقصدون به الأخذ عنه يقظةً أو مناماً .
2ـ الخضر عليه الصلاة السلام : قد كثرت حكايتهم عن لقياه ، والأخذ عنه أحكاماً
شرعية وعلوماً دينية ، وكذلك الأوراد ، والأذكار والمناقب .
3ـ الإلهام : سواء كان من الله تعالى مباشرة ...
4ـ الفراسة : التي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها .
5ـ الهواتف : من سماع الخطاب من الله تعالى ، أو من الملائكة ، أو الجن الصالح ، أو
من أحد الأولياء ، أو الخضر ، أو إبليس ، سواء كان مناماً أو يقظةً أو في حالة
بينهما بواسطة الأذن .
6ـ الإسراءات والمعاريج : ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي ، وجولاتها
هناك ، والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار .
7ـ الكشف الحسي : بالكشف عن حقائق الوجود بارتفاع الحجب الحسية عن عين القلب وعين
البصر .
8 ـ الرؤى والمنامات : وتعتبر من أكثر المصادر اعتماداً عليها ، حيث يزعمون أنهم
يتلقَّون فيها عن الله تعالى ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن أحد شيوخهم
لمعرفة الأحكام الشرعية " انتهى .
وهذا الكشف الصوفي كما هو
ظاهر متضمن للحق والباطل , وما كان كذلك فإنه لا يقبل حتى يتميز , فيقبل الحق ويرد
الباطل.
وقد كان متقدمو الصوفية لا يقبلون من الكشف العلمي أو الذوقي والوجداني إلا ما وافق
الكتاب والسنة .
قال أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي : " رُبمَا يَقع فِي قلبِي النُّكْتَة من نكت
الْقَوْم أَيَّامًا ، فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ الْكتاب
وَالسّنة " انتهى من " طبقات الصوفي " للسلمي (1/76) .
ويمكن تمييز الحق من الباطل
من الكشف بأحد أمرين :
الأول : حال مدعي الكشف , فإن الرجل الصالح – ومثله المرأة – أهل للكشف الرباني ,
وإن الرجل الضال أهل لتنزل الشياطين عليه .
قال الله تعالى : ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
كَاذِبُونَ ) سورة الشعراء / 221-223.
الثاني : مضمون الكشف هل هو مخالف للكتاب والسنة فيرد ؟ أم موافق لهما فيقبل ؟ أم
لا مخالف ولا موافق , فيكون من أخبار الدنيا الصادقة ، وعلومها الصحيحة التي لا
يتعلق بمجردها ولاية الله أو عداوته ؟
وقول السائل : " لاحظ هذا الرجل الصالح أن صلاته لا تقبل " فهذا غير مقبول ؛ لأنه
يخالف القرآن الكريم . لأن الله تعالى قال : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ) سورة الأنعام / 164 .
فكيف يعاقب الإنسان على ذنب لم يفعله بل فعلته أمه وهو حمل في بطنها ؟!
فهذا من جملة ما سبق الإشارة
إليه ، من الكشف المخالف للكتاب والسنة ؛ وهو مردود غير مقبول ، ونقطع بأن هذا ليس
من الله تعالى .
وأما قول السائل : " كمن
يعرف أن أبويه في النار مثلاً " ؟
فالجواب : أن مثل هذا لا يقع علما عاما ، لعامة الناس ، إلا بخبر الله ورسوله ،
الواجب التصديق ، كما ثبت عن العشرة المبشرين بالجنة ، وغيرهم ممن سماهم النبي صلى
الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة .
أو من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه : أنه من أهل النار .
فهذا هو العلم الذي يجب التصديق به على من بلغه ، والشهادة عليه .
ينظر جواب السؤال رقم : (731) .
وأما من سوى هؤلاء ، من أهل
العلم الخاص ، فالأصل أن ذلك من الغيب الذي لا يعلم حصوله لأحد .
وإذا قدر أن أحداً وقع في قلبه شيء من ذلك ، فمثل هذا لا يجوز الشهادة بمضمونه ،
ولا القطع على العلم والخبر به ؛ بل هو من باب الظن الذي يخطئ ويصيب .
ثم هب أن قائلاً قد ادعى علم شيء من ذلك ، وأخبر به ، فليس على أحد أن يصدقه فيما
يقوله ، ولا أن يعتقد مضمونه ، ولا أن يخبر به غيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فَمَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ بِالنَّصِّ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،
كَالْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ : فَعَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَا
شَهِدَ لَهُ بِهِ النَّصُّ .
وَأَمَّا مَنْ شَاعَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ ، بِحَيْثُ اتَّفَقَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ ؟ هَذَا
فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ
بِذَلِكَ . هَذَا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ .
وَأَمَّا " خَوَاصُّ النَّاسِ " فَقَدْ يَعْلَمُونَ عَوَاقِبَ أَقْوَامٍ بِمَا
كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ ، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ
الْعَامُّ بِهِ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا
الْكَشْفُ يَكُونُ ظَانًّا فِي ذَلِكَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ،
وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطَبَاتِ يُصِيبُونَ تَارَةً ؛ وَيُخْطِئُونَ
أُخْرَى ؛ كَأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ ؛
وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِكِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْ يَزِنُوا
مَوَاجِيدَهُمْ وَمُشَاهَدَتَهُمْ وَآرَاءَهُمْ وَمَعْقُولَاتِهِمْ بِكِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ وَلَا يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ
سَيِّدَ الْمُحَدَّثِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ الْمُلْهَمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ وَقَدْ كَانَتْ تَقَعُ لَهُ وَقَائِعُ فَيَرُدُّهَا
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ صِدِّيقُهُ
[يعني : أبا بكر الصديق رضي الله عنه] التَّابِعُ لَهُ ، الْآخِذُ عَنْهُ ، الَّذِي
هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ الَّذِي يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ .
وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انتهى من " مجموع الفتاوى " (11/65) .
وانظر جواب السؤال رقم : (225045) .
وقول السائل : " حكم الصلاة
خلف إمام يؤمن بالكشف "
فالجواب : إن كان هذا الإمام يدعي علم الغيب بإطلاقه , أو ينسب ذلك إلى غير الله ،
أو يذهب إلى السحرة والكهنة والعرافين فيصدقهم ، أو يستعين بالشياطين لمعرفة الأمور
الغيبية:
فلا تجوز الصلاة خلفه ؛ لأن ذلك كفر , ولا تجوز الصلاة خلف كافر .
ينظر جواب السؤال رقم : (7873) ، و (112069)
.
وإن كانت مجرد أكاذيب وأوهام
فالذي ينبغي هجران مثل ذلك الإمام ، وترك الصلاة خلفه ، لا سيما إذا كان يمكن صلاة
الجماعة ، خلف من هو أولى منه ، وأمثل حالا .
وينظر جواب السؤال رقم : (102711) ، و(93150)
.
والله أعلم .
تعليق