الحمد لله.
الدعوة إلى الله شرف للمسلم الداعية ، فهو عمل الرسل الذين بعثهم الله لإصلاح أقوامهم برسالة من عنده سبحانه ، ورسول هذه الأمة مبعوث للناس كافة ، ومهمة الداعية إلى الله أن يبلغ دين الله تعالى لمن يستطيع من الناس ، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت الدعوة على وجوبها لكل قادر عليها .
ولا يحل للداعية أن يلوث نفسه بمعاصٍ أو منكرات ، فهو طريق شريف يجب تنزيهه عما التصق به مما ليس منه من مخالفات شرعية فعلها أو أحدثها بعض الذين يزعمون أنهم يقومون بالدعوة إلى الله .
أ0 ومن هذه المخالفات المنكرة : إشهار المبتدعة والزنادقة على أنهم أهل فكر إسلامي ! ، وعلى أنهم دعاة ومصلحون ! وهذه ما تفعله بعض القنوات المحسوبة على الإسلام حيث تلمع تلك الأصناف الفاسدة ، وتسوِّق لهم مادحة لهم ، ومثنية عليهم ، ويتكلم أحدهم فيما يرى ، ويعتقد ، ولو كان زندقة أو ضلالاً ، وهذا لا شك أنه محرَّم ، ولا يحل بحال أن يسوِّق أولئك بضاعتهم الكاسدة عن طريق أهل الخير والصلاح ، بل يجب الأخذ على أيديهم ، والتحذير منهم ، وهجرهم ، لا تلميعهم ، والثناء عليهم وتمكينهم من بث سمومهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وكل من أظهر هذه الإشارات البدعية ، التي هي فُشارت [ أي : هذيان ، لا حقيقة له ] ... ، فهم أهل باطل وضلال ، وكذب ومِحال [ المِحال : المكر وطلب الأمور بالحيل ]، مستحقون التعزير البليغ والنكال ، وهم إما صاحب حال شيطاني ، وإما صاحب حال بهتاني ؛ فهؤلاء جمهورهم ، وأولئك خواصهم .
وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه البدع والمنكرات ، ويلزموا طريق الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ليس لهم أن يكونوا قدوة للمسلمين ، وليس لأحد أن يقتدي بهم .
ومن كثر جمعهم الباطل ، وحضر سماعاتهم التي يفعلونها في المساجد وغيرها ، أو حسن حالهم ، أو قرر مِحالهم من أئمة المساجد : فإنه مستحق التعزير البليغ الذي يستحقه أمثاله. وأقل تعزيره : أن يعزل مثل هذا عن إمامة المسلمين ؛ فإن هذا معين لأئمة الضلالة ، أو هو منهم ، فلا يصلح أن يكون إماما لأهل الهدى والفلاح . قال الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة /2، وقال تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران /104"
"جامع المسائل" (3/153-154) ط عالم الفوائد .
ويدل على ذلك الأصل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ، قوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام/ 68 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
" المراد بالخوض في آيات الله : التكلم بما يخالف الحق ، من تحسين المقالات الباطلة ، والدعوة إليها ، ومدح أهلها ، والإعراض عن الحق ، والقدح فيه ، وفي أهله ، فأمر الله رسوله أصلاً ، وأمته تبعاً ، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر : بالإعراض عنهم ، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل ، والاستمرار على ذلك ، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره ، فإذا كان في كلامٍ غيره : زال النهي المذكور .
فإن كان مصلحة : كان مأمورا به ، وإن كان غير ذلك : كان غير مفيد ، ولا مأمور به ، وفي ذم الخوض بالباطل : حث على البحث ، والنظر ، والمناظرة بالحق .
ثم قال : ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } أي : بأن جلست معهم على وجه النسيان والغفلة :
( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يشمل الخائضين بالباطل ، وكل متكلم بمحرم ، أو فاعل لمحرم ، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر ، الذي لا يقدر على إزالته .
هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ، ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم ، أو يسكت عنهم ، وعن الإنكار ، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير ، وينهاهم عن الشر ، والكلام الذي يصدر منهم ، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه ، فهذا ليس عليه حرج ، ولا إثم ، ولهذا قال : ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الأنعام/ 69 .
" تفسير السعدي " ( 260 ، 261 ) .
وقد بعث الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رسالة للأستاذ محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة " الأزهر " ينكر عليه نشر مقال في الإيمان فيه مخالفة لاعتقاد السلف ، ثم ختم رسالته له بقوله :
وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من نشرها هدم الإسلام ؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين :
أحدهما : أن نشر الباطل من غير تعليق عليه : نوعٌ من ترويجه ، والدعوة إليه .
والثاني : أنه قد يَسمع الباطل مَن لا يسمع الرد عليه فيَغتَرُّ به ، ويتَّبع قائله ، وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكَّن من قلبه ، ولم يقوَ الردُّ على إزالة ذلك من قلبه ؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم مَن ضل به ." جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز " ( ص 467 ) إعداد الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .
ب. إذا كان التمكين لأهل البدع لنشر سمومهم وبدعهم منكرا ، أو حتى لنشر كلام مستقيم ، في وسط من لا يميز بين حق وباطلهم ، فيتبعهم على بدعهم وباطلهم ، لما رأى من حقهم ، أو لما مكنوا من هذه المنابر لدعوة الناس والاتصال بهم ، إذا كان ذلك كله منكرا ؛ فلا ندري ما نقول فيمن يمكن للحداثيين والعلمانيين والملاحدة منابر الإعلام والاتصال بالناس والتأثير فيهم ؛ نعم لو كان المنبر منبرهم ، والمكان مكانهم ، وزاحمناهم نحن عليه ، فهذا أمر طيب ومطلوب ، شريطةَ أن نعلن للناس صراحة ، ومن غير مواربة ولا خجل ، براءتنا من إلحادهم وعلمانيتهم ، وقوميتهم .. ، وما هم عليه من الضلالات والمخالفات لشرع رب العالمين .
أما أن يكون المنبر لأهل الحق والدين ، أو التمكين في المكان لهم ، ثم هم يتعاونون مع هؤلاء ، أو يمكنون لهم ، فعلي أي شيء يتعاون الكفر والإيمان ، وأهل الحق وأهل الباطل ؟!
ج0 ومن هذه المنكرات : الاختلاط المحرَّم الذي يحصل في بعض المؤسسات الدعوية ، أو في بعض القنوات المحسوبة على الإسلام ، حيث يجتمع الذكور والإناث كلُّ في كامل زينته ! ليبدأ الحديث بعدها عن الإسلام ، وأحكامه ، وأخلاقه ! ينظر بعضهم إلى بعض أمام الملايين ، وهو الشيء نفسه الذي يُفعل عند بعض الجماعات الإسلامية ، أو المؤسسات الدعوية ، حيث يجتمع الدعاة من الذكور والإناث للمناقشة حول أسلوب الدعوة ، وطرقها الناجحة ، وخطط الدعوة المستقبلية ، والعجب أن يكون هذا أيضا في الجامعات المختلطة ، ومن شباب في سنِّ المراهقة الشديدة ، وفي سن بلوغ الشهوة أوجها ، وخاصة مع المناظر المؤذية من النساء المتبرجات في جامعاتهم ومؤسساتهم التعليمية .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
والإسلام حرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة , وكذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال ؛ لكونه يفضي إلى الطمع فيهن ، كما في قوله عز وجل : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الأحزاب/ 32 ، يعني : مرض الشهوة ، فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط ؟! .
ومن البدهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال : لا بد أن تكلمهم ، وأن يكلموها , ولا بد أن ترقق لهم الكلام ، وأن يرققوا لها الكلام , والشيطان من وراء ذلك يزيِّن ، ويحسِّن ، ويدعو إلى الفاحشة ، حتى يقعوا فريسة له , والله حكيم عليم ، حيث أمر المرأة بالحجاب , وما ذاك إلا لأن الناس فيهم البرُّ والفاجر ، والطاهر والعاهر ، فالحجاب يمنع - بإذن الله - من الفتنة ، ويحجز دواعيها , وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء , والبعد عن مظان التهمة ، قال الله عز وجل : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) الأحزاب/ 53 .
وخير حجاب المرأة بعد حجاب وجهها باللباس : هو بيتها ، وحرَّم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب ; لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر , وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة ، مع لزوم الأدب الشرعي , وقد سمَّى الله مكث المرأة في بيتها : قراراً , وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ، ففيه استقرار لنفسها ، وراحة لقلبها ، وانشراح لصدرها ، فخروجها عن هذا القرار : يفضي إلى اضطراب نفسها ، وقلق قلبها ، وضيق صدرها ، وتعريضها لما لا تحمد عقباه .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 422 ، 423 ) .
وعليه : فالواجب الإنكار على أعضاء تلك الجمعية ، وتذكيرهم بحكم الشرع في تمكين المبتدعة والزنادقة من منابرهم لتسويق أنفسهم ، أو تسويق معتقداهم وأفكارهم ، وإنكار الاختلاط الحاصل في اجتماعات تلك الجمعية ، ونقل كلام أهل العلم في التحذير منه ، ومن عواقبه الناتجة عنه ، وتكون بذلك قد أبرأت ذمتك ، فإن استجابوا فكن معهم ، وأيدهم ، وإن خالفوا ذلك ولم يقبلوه : فاترك الانتساب إليهم ، ولا تعنهم على منكرٍ يفعلوه ، مع تنبيهك على التزام الصحبة الصالحة ، والدعوة إلى الله ، والازدياد من الإيمان بفعل الطاعات ، وترك المنكرات .
وانظر جواب الأسئلة : ( 8827 ) و ( 22397 ) و ( 6666 ) .
والله أعلم
تعليق