الاثنين 17 جمادى الأولى 1446 - 18 نوفمبر 2024
العربية

من أحكام المال الحرام في كسبه وذاته ، وحكم الاستفادة منه من الأولاد ، وتوريثه

السؤال

أبي كان يعمل في شركة تأمين ، وعندما عمل بهذه الشركة من البداية كان لا يعلم أن العمل في شركات التأمين حرام ، ولكنه علم أن العمل بها حرام عندما بلغ الخمسين من عمره ، ومع ذلك لم يترك العمل ، أبي الآن عمره سبع وستون سنة ، وبلغ سن التقاعد منذ سبع سنوات ، ومع ذلك يعمل بها بدون مرتب ، لكن بنظام العمولة ، وهو ينوي أن يترك هذا العمل في نهاية هذا العام ، نصحته مرات عديدة فيقول لي : إنه قريباً سيترك العمل ، أحب أن أوضح أن المال الذي حصل عليه أبي من شركته تصرَّف به على النحو التالي : في البداية تم إيداعه في البنك بنظام الفوائد ، ثم بعد ذلك أخذه واستثمره في مشروع مقاولات ( مشروع حلال ) . بعد هذا الإيضاح : أرجو التكرم بالإجابة عن الأسئلة التالية : - ما حكم هذا المال حلال أم حرام أم مال مختلط ؟ . - هل يجوز لي ولإخوتي وأمي الانتفاع بهذا المال بالرغم أني أعمل ، وأحصل على راتب متواضع ، والحمد لله يعينني على الحصول على قوت يومي ؟ . - أبي ينفق علينا ، وينوي بإذن الله أن يعطيني أنا وإخوتي لكل واحد منا شقة للسكن ، وجزءً من المال ، فهل أقبل أن آخذ الشقة والمال أم أرفض ؟ .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:
عقود التأمين التجارية المشتهرة المنتشرة في الآفاق لا شك في حرمتها ، ومخالفتها للشرع ، فهي عقود غرر ، وميسر ، وبعض أنواعه تؤخذ من الناس كرهاً بغير طيب نفس ، فقد جمعت هذه العقود شروراً مختلفة ، فلا عجب أن تجتمع كلمة العلماء على حرمتها ، والخلاف فيها شاذ غير معتبر .
ثانياً:
بخصوص عمل والدك وكسبه من العمل في شركة التأمين : فإننا نذكره بتقوى الله تعالى أولاً ، فقد شارف على السبعين ! وهو لا يزال يعمل فيما علم أنه حرام ولا يحل له البقاء فيه ، فمتى سيتقي ربه ويترك ما يغضب الله تعالى من الأعمال ؟ وهل يضمن حياته إلى آخر السنة حتى يبقى على عمل محرم ؟ وكيف يرضى لنفسه وقد بلغ هذه السن أن يُختم له وهو يعصي ربَّه تعالى ؟ ومثل هذا مكانه مسجد حيِّه ، مصليّاً ، وقارئاً للقرآن ، وداعياً ، ومكانه الحرم ، معتمراً ، ومعتكفاً ، ومتعبداً ، وليس مكانه شركات القمار ، وليس همه كيف يجلب زبوناً ، أو يحافظ على آخر ، فنسأل الله تعالى أن يعجل هدايته ، وأن ييسر له ختم حياته على خير ما يحب ربه منه .
وبخصوص المال المكتسب من ذلك العمل المحرَّم : فما كان قبل علمه بحرمة عمله : فهو حلال له ، رواتب تلك المدة ومكافآتها ، وما كان بعد علمه بحرمته : حرام عليه ، رواتب تلك المدة ومكافآتها .
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء في بعض أجوبتهم :
المدة التي جلستَها في البنك للعمل فيها : نرجو من الله أن يغفر إثمها عنك ، وما جمعتَه من نقود وقبضتها بسبب العمل في البنك عن المدة الماضية : لا إثم عليك فيها ، إذا كنت تجهل الحكم في ذلك .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 15 / 46 ) .
وهذه الفتوى تنطبق على كل من عمل في مجال كسبٍ محرَّم وهو لا يدري حكمه ، أو قيل له ممن يثق به إنه جائز ، لكنَّ ذلك الحِل له شرط لم يأتِ به والدك ، وهو الترك للعمل ، والكف عن الاستمرار به ، والكف عن الحرام جعله الله تعالى شرطاً لحل ما سبق أخذه .
قال تعالى : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) البقرة/ آية 275 .
قال الشيخ العثيمين – رحمه الله - :
من فوائد الآية : أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم بالتحريم : فهو حلال له ، بشرط أن يتوب وينتهي .
" تفسير سورة البقرة " ( 3 / 377 ) .
وبمثله قال علماء اللجنة الدائمة ، انظر فتواهم في جواب السؤال رقم ( 106610 ) .
وأما بعد علمه بالتحريم : فلا يحل له كسبه ؛ لحرمة العمل نفسه .
ثالثاً:
بخصوص الزوجة والأولاد الذين هم في رعاية من يكسب الحرام من عمل محرَّم : فإنه لا حرج عليهم فيما يُنفق عليهم من قبله ، وإنما إثمه وتحريمه على من اكتسبه دون غيره ، ومن هنا نعلم سبب قبول النبي صلى الله عليه وسلم دعوة اليهود ، وأكله من طعامهم ، مع كونهم يكسبون المال بطرق محرَّمة .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
أبي - غفر الله له - يعمل في بنك ربوي ، فما حكم أخذنا من ماله وأكلنا وشربنا من ماله ؟ غير أن لنا دخلاً آخر وهو من طريق أختي الكبيرة فهي تعمل ، فهل نترك نفقة أبي ونأخذ نفقتنا من أختي الكبيرة مع أننا عائلة كبيرة ، أم أنه ليس على أختي النفقة علينا فنأخذ النفقة من أبي ؟ .
فأجاب :
" أقول : خذوا النفقة من أبيكم ، لكم الهناء ، وعليه العناء ؛ لأنكم تأخذون المال من أبيكم بحق ؛ إذ هو عنده مال وليس عندكم مال ، فأنتم تأخذونه بحق ، وإن كان عناؤه وغرمه وإثمه على أبيكم ، فلا يهمكم ، فها هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبَل الهدية من اليهود ، وأكل طعام اليهود ، واشترى من اليهود ، مع أن اليهود معروفون بالربا ، وأكل السحت ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يأكل بطريق مباح ، فإذا ملك بطريق مباح : فلا بأس ، انظر مثلاً " بريرة " مولاة عائشة رضي الله عنهما ، تُصدق بلحم عليها ، فدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوماً إلى بيته ووجد البُرمة – القِدر - على النار ، فدعا بطعام ، ولم يؤتَ بلحم ، أتي بطعام ولكن ما فيه لحم ، فقال : ( ألم أر البرمة على النار ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، ولكنه لحم تُصدق به على " بريرة " - والرسول عليه الصلاة والسلام لا يأكل الصدقة - ، فقال : ( هو لها صدقة ولنا هدية ) فأكله الرسول عليه الصلاة والسلام مع أنه يحرم عليه هو أن يأكل الصدقة ؛ لأنه لم يقبضه على أنه صدقة بل قبضه على أنه هدية .
فهؤلاء الإخوة نقول : كلوا من مال أبيكم هنيئاً مريئاً ، وهو على أبيكم إثم ووبال ، إلا أن يهديه الله عز وجل ويتوب ، فمن تاب : تاب الله عليه .
" اللقاء الشهري " ( 45 / السؤال رقم 16 ) .
وحكم هذا المال المختلط : أنه ما أُعطي لكم منه : فكلوه هنيئاً مريئاً ، سواء كان مالا نقديّاً ، أو عيناً كشقة ، أو أرض .
وما تركه لكم بعد وفاته : فانظروا إن كان ثمة صاحب للمال الذي ورَّثه لكم أُخذ ظلماً فادفعوه له ، فإن لم يكن له صاحب ، أو لم تستطيعوا الوصول إليه : فأخرجوا قدر هذا المال في وجوه الخير ، وهذا في المال المحرَّم لذاته ، وأما المحرَّم لكسبه فهو حرام عليه دونكم ، وهو لكم حلال ، كما سبق في كلام الشيخ العثيمين رحمه الله ، إلا أن تتورعوا عنه ، فتخرجوه في وجوه الخير ، ولكن هذا ليس بمحتم عليكم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله - وسئل عن مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله ، فهل يكون حلالاً للولد بالميراث أو لا ؟ - :
أما القدْر الذي يعلم الولد أنه رباً : فيخرجه ، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن ، وإلا يتصدق به ، والباقي : لا يحرم عليه .
لكن القدر المشتبه : يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء ديْن أو نفقة عيال ، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء : جاز للوارث الانتفاع به ، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما : جعل ذلك نصفين .
" مجموع الفتاوى " ( 29 / 307 ) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
لا يجوز للأب أن يربِّي أولاده على كسبٍ حرام ، وهذا معلوم عند السائل ، وأما الأولاد : فلا ذنب لهم في ذلك ، وإنما الذنب على أبيهم .
وإذا كان المنزل كله من السرقة : فالواجب على الورثة رد السرقة إلى أهلها ، إذا كانوا معروفين ، وإن كانوا مجهولين : وجب صرف ذلك إلى جهات البر ، لتعمير المساجد ، والصدقة على الفقراء ، بالنية عن مالك السرقة ، وهكذا الحكم إذا كان بعض المنزل من السرقة وبعضه من مال الجد ، فعلى الورثة أن يردوا ما يقابل السرقة إلى أهلها إن عُرفوا ، وإلا وجب صرف ذلك في جهات البر ، كما تقدم .
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 26 / 332 ) .
والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب