الحمد لله.
الحديث الوارد في ترجيع النبي صلى الله عليه وسلم عند التلاوة هو ما يرويه عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه فيقول :
( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ - أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ - قَالَ : فَرَجَّعَ فِيهَا . قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ . وَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ : كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ ؟ قَالَ : آ آ آ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )
رواه البخاري (7540)
والمقصود بالترجيع ههنا هو تحسين الصوت والتغني بالقرآن الكريم عند الإتيان بالمدود ، من خلال ترديد الصوت بالحلق وإشباع المد .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" الترجيع : هو تقارب ضروب الحركات في القراءة ، وأصله الترديد ، وترجيع الصوت ترديده في الحلق .
وقد فسره كما سيأتي في حديث عبد الله بن مغفل المذكور في هذا الباب في كتاب التوحيد بقوله : ( أ ا أ ) بهمزة مفتوحة ، بعدها ألف ساكنة ، ثم همزة أخرى .
ثم قالوا : يحتمل أمرين :
أحدهما : أن ذلك حدث من هز الناقة .
والآخر : أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك .
وهذا الثاني أشبه بالسياق ، فإن في بعض طرقه : ( لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن ) أي : النغم .
وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع :
فأخرج الترمذي في " الشمائل " والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ : كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن .
والذي يظهر أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل :
فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق ، عن علقمة قال : بِتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره ، فنام ثم قام ، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته ويسمع من حوله ، ويرتل ولا يرجع .
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة :
معنى الترجيع : تحسين التلاوة ، لا ترجيع الغناء ؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة " انتهى.
" فتح الباري " (9/92)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" إذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) ، وقوله : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ، وقوله : ( ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقران )، علمت أن هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم كان اختيارا ، لا اضطرارا لهز الناقة له ، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة ، لما كان داخلا تحت الاختيار ، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارا ليؤتسى به ، وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ، ثم يقول كان يرجع في قراءته ، فنسب الترجيع إلى فعله ، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا " انتهى.
" زاد المعاد " (1/483-484)
وقال ابن بطال رحمه الله :
" ومعنى حديث ابن مغفل في هذا الباب التنبيه على أن القرآن أيضا رواية النبي رواية النبي عن ربه .
وفيه من الفقه : إجازة قراءة القرآن بالترجيع والألحان الملذة للقلوب ، بحسن الصوت ... ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبالغ في تزيين قراءته لسورة الفتح التي كان وعده الله فيها بفتح مكة ، فأنجزه له ؛ ليستميل قلوب المشركين العتاة على الله لفهم ما يتلوه من إنجاز وعد الله له فيهم ، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت المرجَّع فيه بنغم ثلاث ، في المدة الفارغة من التفصيل.
وقول معاوية : ( لولا أن يجتمع الناس إلي لرجعت كما رجَّع ابن مغفل ، يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم ) يدل أن القراءة بالترجيع والألحان تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء والتفهم ، ويستميلها ذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المشوب بلذة الحكمة المفهومة منه " انتهى.
" شرح صحيح البخاري " (10/537-538)
والله أعلم .
تعليق