الحمد لله.
أولا :
الدم إنما يُحكَم بنجاسته إذا سفح وخرج ، أما إذا كان في بدن الحيوان وعروقه فليس بنجس .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ وَلَا يُغْنِي الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيما فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا .
وهذه الدِّمَاء الْمُسْتَخْبَثَة فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا ، حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا ، فَالْحُكْمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ .
كما أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا " انتهى بتصرف يسير .
"مجموع الفتاوى" (21/598-600)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" إنما تصير الفضلة بولا وغائطا إذا فارقت محلها ، فحينئذ يحكم عليها بالنجاسة ، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيب غير خبيث ، وإنما يصير خبيثا بعد قذفه وإخراجه وكذلك الدم إنما هو نجس إذا سفح وخرج ، فأما إذا كان في بدن الحيوان وعروقه فليس بنجس " انتهى .
"بدائع الفوائد" (3 / 641) .
ثانيا :
إذا افترضنا أن الدم نجس وهو في محله ، قبل خروجه من بدن الإنسان أو الحيوان ؛ فالمني طاهر وإن تولّد منه ، وذلك لأنه استحال ؛ أي تحول عن صفات الدم الأصلية ، إلى صفات أخرى ، فطهر بهذه الاستحالة ؛ والعبرة هنا ليست بالأصل الذي تحول عنه ، وإنما العبرة بصفاته التي هو عليها وقت الحكم عليه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ . وَقَوْلُهُمْ : الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ . قُلْنَا : مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا : طَهُرَتْ . وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ ، بَلْ أَقُولُ : الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ ، مِثْلُ جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا ، وَالدَّمِ مَنِيًّا ، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً ، وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا ، وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا ، وَالزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ وَيَزُولُ حَقِيقَةُ النَّجِسِ وَاسْمُهُ التَّابِعُ لِلْحَقِيقَةِ ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا"
"مجموع الفتاوى" (21 / 600-601)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" الطيب إذا استحال خبيثا صار نجسا ، كالماء والطعام إذا استحال بولا وعذرة ، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا ؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث ، والخبيث من الطيب ، ولا عبرة بالأصل بل بوصف الشيء نفسه ، ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه ، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما " انتهى .
"إعلام الموقعين" (2 / 14) .
وينظر حول طهارة المني : جواب السؤال رقم : (2458).
والله أعلم .
تعليق