الحمد لله.
تخريج حديث همِّ النبي بالانتحار
الحديث الذي يسأل عنه الأخ السائل موجود في ” صحيح البخاري ” برقم (6581)، في كتاب ” التعبير “، باب ” أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة “.
ولفظه:
قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:… وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ؛ فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ “.
من القائل (فيما بلغنا) في حديث همِّ النبي بالانتحار؟
هذه الزيادة ليست من كلام عائشة رضي الله عنها، بل هي من كلام الزهري، وهو من التابعين لم يدرك تلك الحادثة، ولم يذكر هو أن أحدا من الصحابة حدثه بها، ولذا نصَّ على ذلك في الرواية نفسها بقوله: ” فيما بلَغنا “.
قال ابن حجر – رحمه الله -:
ثم إن القائل ” فيما بَلَغَنا ” هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة. وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً، وقال الكرماني: هذا هو الظاهر. ” فتح الباري ” (12 / 359).
وقال أبو شامة المقدسي – رحمه الله -:
هذا من كلام الزهري أو غيره، غير عائشة، والله أعلم؛ لقوله: ” فيما بلغنا “، ولم تقل عائشة في شيء من هذا الحديث ذلك. ” شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى ” (ص 177).
هل تقبل بلاغات الزهري وغيره؟
وبلاغات الزهري وغيره لا تُقبل؛ لأنها مقطوعة الإسناد من أوله، فهي كالمعلَّقات تعريفاً وحكماً، ومجرد وجود مثل هذه البلاغات أو المعلقات في كتاب الإمام البخاري لا يعني أنها صحيحة عنده، أو أنها مما يصح أن يقال فيها: رواه البخاري؛ لأن الذي يقال فيه ذلك هو ما رواه فيه مسندا.
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
” هذا العزو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري؛ وليس كذلك، وبيانه أن البخاري أخرجها في آخر حديث عائشة في بدء الوحي… [ وذكر الرواية السابقة ].
هكذا أخرجه بهذه الزيادة أحمد (6 / 232 – 233) وأبو نعيم في (الدلائل) (ص 68 – 69) والبيهقي في (الدلائل) (1 / 393 – 395) من طريق عبد الرزاق عن معمر به. ومن هذه الطريق أخرجه مسلم (1 / 98) لكنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ رواية يونس عن ابن شهاب، وليس فيه الزيادة. وكذلك أخرجه مسلم و أحمد (6 / 223) من طريق عقيل بن خالد: قال ابن شهاب، به، دون الزيادة. وكذلك أخرجه البخاري في أول الصحيح عن عقيل به.
قلت [ القائل هو الشيخ الألباني ]: ونستنتج مما سبق أن لهذه الزيادة علتين:
- الأولى: تفرد معمر بها، دون يونس وعقيل؛ فهي شاذة.
- الأخرى: أنها مرسلة معضلة؛ فإن القائل: (فيما بلغنا) إنما هو الزهري، كما هو ظاهر من السياق، وبذلك جزم الحافظ في “الفتح”…
قلت: وهذا مما غفل عنه الدكتور [ يعني: الدكتور البوطي، مؤلف الكتاب الذي ينتقده الشيخ ]، أو جهله، فظن أن كل حرف في “صحيح البخاري” هو على شرطه في الصحة، ولعله لا يفرق بين الحديث المسند فيه والمعلق، كما لم يفرق بين الحديث الموصول فيه والحديث المرسل الذي جاء فيه عرضا، كحديث عائشة هذا الذي جاءت في آخره هذه الزيادة المرسلة.
واعلم أن هذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بها كما بينته في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) برقم (4858)، وأشرت إلى ذلك في التعليق على “مختصري لصحيح البخاري”.
انتهى ـ مختصرا ـ من “دفاع عن الحديث النبوي” (40-41).
أسانيد أخرى فيها ذِكر حكاية محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار
قد جاءت أسانيد أخرى فيها ذِكر حكاية محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار أثناء انقطاع الوحي بعدما جاءه أول مرة، وكلها أسانيد مردودة، ما بين ضعيف وموضوع.
ومنها:
- إسناد ابن مردويه:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
ووقع عند ابن مردويه في ” التفسير ” من طريق محمد بن كثير عن معمر بإسقاط قوله ” فيما بلغنا “، ولفظه: “… فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم منها حزناً غدا منه ” إلى آخره، فصار كله مدرجا على رواية الزهري عن عروة، عن عائشة والأول هو المعتمد. ” فتح الباري ” (12 / 359، 360).
ومعنى قول الحافظ ” والأول هو المعتمد ” أي: أن رواية الزهري فيها لفظ ” فيما بلغنا ” وليست هي موصولة.
قال الشيخ الألباني – رحمه الله – معلِّقاً على ترجيح الحافظ -:
ويؤيده أمران:
- الأول: أن محمد بن كثير هذا ضعيف؛ لسوء حفظه – وهو الصنعاني المصيصي -.
قال الحافظ:” صدوق كثير الغلط “، وليس هو محمد بن كثير العبدي البصري؛ فإنه ثقة.
- والآخر: أنه مخالف لرواية عبد الرزاق حدثنا معمر… التي ميزت آخر الحديث عن أوله، فجعلته من بلاغات الزهري….
فدل هذا كله على وهم محمد بن كثير الصنعاني في وصله لهذه الزيادة، وثبت ضعفها. ” سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ” (10 / 453).
- إسناد ابن سعد:
قال محمد بن سعد:
أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي بحراء مكث أياماً لا يرى جبريل فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ” ثبير ” مرة وإلى ” حراء ” مرة يريد أن يلقي نفسه منه فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامداً لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتاً من السماء فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعاً عليه يقول: ” يا محمد أنت رسول الله حقّاً وأنا جبريل ” قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرَّ الله عينه وربط جأشه ثم تتابع الوحي بعد وحمي. ” الطبقات الكبرى ” (1 / 196).
قال الشيخ الألباني – رحمه الله -:
وهذا إسناد موضوع؛ آفته: إما محمد بن عمر – وهو الواقدي -؛ فإنه متهم بالوضع، وقال الحافظ في ” التقريب “: ” متروك مع سعة علمه “، وقد تقدمت كلمات الأئمة فيه أكثر من مرة.
وإما إبراهيم بن محمد بن أبي موسى – وهو ابن أبي يحيى – واسمه: سمعان الأسلمي مولاهم أبو إسحاق المدني -، وهو متروك أيضاً مثل الواقدي أو أشد؛ قال فيه الحافظ أيضاً: ” متروك “، وحكى في ” التهذيب ” أقوال الأئمة الطاعنين فيه، وهي تكاد تكون مجمعة على تكذيبه، ومنها قول الحربي:” رغب المحدثون عن حديثه، روى عنه الواقدي ما يشبه الوضع، ولكن الواقدي تالف “.
وقوله في الإسناد: ” ابن أبي موسى ” أظنه محرَّفاً من ” ابن أبي يحيى “، ويحتمل أنه من تدليس الواقدي نفسه؛ فقد دلس بغير ذلك، قال عبد الغني بن سعيد المصري: ” هو إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء الذي حدث عنه ابن جريج، وهو عبد الوهاب الذي يحدث عنه مروان بن معاوية، وهو أبو الذئب الذي يحدث عنه ابن جريج “. ” سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ” (10 / 451).
- إسناد الطبري:
قال ابن جرير الطبري:
حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدِّثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام فقال عبيد – وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً… جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي قال اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علَّم الإنسان ما لم يعلم قال: فقرأته، قال: ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً، قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إليَّ من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق أن أنظر إليهما قال: قلت: إن الأبعد – يعني نفسه ! – لَشاعر أو مجنون لا تحدث بها عني قريش أبداً لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحنَّ نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن، قال: فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال: فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبرئيل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل…). ” تاريخ الطبري ” (1 / 532، 533).
ومتن هذه الرواية منكر مخالف للروايات الصحيحة؛ ففي هذا المتن أن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل كان في المنام لا يقظة ! ثم إن فيه قوله صلى الله عليه وسلم (ماذا أقرأ) ! وكلاهما باطل، فاللقاء بين الرسولين كان يقظة، والذي قاله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بقارئ) نفياً عن نفسه أن يكون قارئاً والرواية المنكرة تثبت أن ليس أمِّيّاً !.
وأما إسناد الرواية: فقال الشيخ الألباني – رحمه الله -:
ولكن هذا الإسناد مما لا يفرح به، لا سيما مع مخالفته لما تقدم من روايات الثقات؛ وفيه علل:
- الأولى: الإرسال؛ فإن عبيد بن عمير ليس صحابيّاً، وإنما هو من كبار التابعين، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
- الثانية: سلمة – وهو ابن الفضل الأبرش -، قال الحافظ:” صدوق كثير الخطأ “.
قلت: ومع ذلك فقد خالفه زياد بن عبد الله البكائي؛ وهو راوي كتاب ” السيرة ” عن ابن إسحاق، ومن طريقه رواه ابن هشام، وقال فيه الحافظ:” صدوق ثبت في المغازي “.
وقد أخرج ابن هشام هذا الحديث في ” السيرة ” (1 / 252، 253) عنه عن ابن إسحاق به دون الزيادة التي وضعتها بين المعكوفتين [ ]، وفيها قصة الهمّ المنكرة.
فمن المحتمل أن يكون الأبرش تفرد بها دون البكائي، فتكون منكرة من جهة أخرى؛ وهي مخالفته للبكائي؛ فإنه دونه في ابن إسحاق؛ كما يشير إلى ذلك قول الحافظ المتقدم فيهما.
ومن المحتمل أن يكون ابن هشام نفسه أسقطها من الكتاب؛ لنكارة معناها، ومنافاتها لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أشار في مقدمة كتابه إلى أنه قد فعل شيئاً من ذلك، فقال (1 / 4): “… وتارك ذكر بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر… وأشياء بعضها يشنع الحديث به “.
وهذا كله يقال على احتمال سلامته من العلة التالية؛ وهي:
- الثالثة: ابن حميد – واسمه محمد الرازي -؛ وهو ضعيف جدّاً، كذَّبه جماعة من الأئمة، منهم أبو زرعة الرازي.
وجملة القول: أن الحديث ضعيف إسناداً، منكر متناً، لا يطمئن القلب المؤمن لتصديق هؤلاء الضعفاء فيما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم بقتل نفسه بالتردي من الجبل، وهو القائل – فيما صح عنه -: (من تردى من جبل فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً) متفق عليه – ” الترغيب ” (3 / 205) – لا سيما وأولئك الضعفاء قد خالفوا الحفاظ الثقات الذين أرسلوه.
” سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ” (10 / 455 – 457).
ضعف الأسانيد التي رويت في محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار
قد ثبت بما تقدم ضعف الأسانيد التي رويت في محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار، بل وبطلان بعضها، ولا يخفى أن متنها أيضاً باطل منكر، وذلك من وجوه:
- أن فترة انقطاع الوحي كانت لإزالة الخوف الذي جاء لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه الوحي، وأنها للاستعداد لما بعده، فكيف يلتقي هذا مع همِّه صلى الله عليه وسلم بالانتحار ؟!.
قال ابن طولون الصالحي – رحمه الله -:
الحكمة في فترة الوحي – والله أعلم -: ليذهب عنه ما كان يجده صلى الله عليه وسلم من الروع وليحصل له التشوق إلى العود.
” سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ” (2 / 272).
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك للحظة في كونه نبيّاً، فقد ثبَّت الله تعالى قلبه بالوحي، وما وجده من الرهبة من نزول الوحي أول مرة فيدل على بشريته، وعلى شدة الوحي، وقد كان يعاني صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عند نزول الوحي في بعض صوره.
والخلاصة لم تصح رواية همِّ النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بالانتحار لتأخر الوحي عليه أول أمر الرسالة، والزيادة التي في البخاري ليست على شرطه فلا تنسب للصحيح، وقد أثبتها البخاري رحمه الله أنها من قول الزهري لا غيره، فهي بلاغ مقطوع الإسناد لا يصح، وقد ذكرنا للحديث روايات أخرى كلها يؤكد عدم صحة القصة لا سنداً ولا متناً.
وينظر لمزيد الفائدة هذه الأجوبة: (205660، 150936، 70363).
والله أعلم.
تعليق