الحمد لله.
أولاً :
يجب على المسلمين جميعاً الالتزام بالكتاب والسنة ، وترك التعصب للأئمة والعلماء ،
وقد أمر الله تعالى عند الاختلاف بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، فقال تعالى ...
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا [ النساء / 59 ] .
ولا يجوز لأحدٍ أن يُلزم الناس بالتزام مذهب معيَّن ، لا سيما في
أمور العبادات ؛ فضلاً عن معاقبة من خالف ذلك ، ومن فعل ذلك فقد استحق الوعيد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( لا يجب على أحدٍ من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب
على أحدٍ من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما
يوجبه ويخبر به ، بل كل أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم .
واتباع شخصٍ لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته ، إنما هو مما يسوغ
له ؛ ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ، بل كل أحد
عليه أن يتقي الله ما استطاع ، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ، فيفعل المأمور
ويترك المحظور) انتهى.
" مجموع الفتاوى " ( 20 / 209 ) .
ثانياً :
مسألة القنوت في صلاة الفجر مما اختلف العلماء في حكمها ، فقد ذهب الإمام مالك إلى
استحبابه قبل ركوع الركعة الثانية ، وقال الشافعي بسنيته بعد ركوع الركعة الثانية ،
وخالفهما أبو حنيفة وأحمد وذهبا إلى عدم سنيتها بل صرَّح أبو حنيفة ببدعيتها .
والصواب في ذلك أن القنوت في الفجر لا يسن فعله على الدوام ، إنما يستحب القنوت في
النوازل ، في الفجر وغيره من الصلوات . وما ورد في تخصيص الفجر بالقنوت ، أو في كون
قنوت الفجر سنة راتبة : فلم يصح منه شيء .
وينظر جواب السؤال رقم (101015)
.
ثالثاً :
مع ما ذكرناه سابقا ، من أنه لا يشرع قنوت الفجر ، بصفة دائمة ، فإذا كان الإمام
يعلم أن قومه لن يطيعوه في ترك القنوت ، أو فيما سوى ذلك من فعل السنن والمستحبات ،
فإنه يصلي بهم على ما استطاع إقامته من السنة ، ويترفق بهم إلى أن ينقلهم إلى السنة
بالتدرج ؛ لقول الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/16،
فيعلمهم السنة بالرفق واللين ، ويتدرج بهم في إقامتها ، ومن المعلوم عند العلماء :
أن الميسور لا يسقط بالمعسور ؛ وما عجر عنه ليس عذرا له في ترك إقامة ما يقدر عليه
من السنة القولية والعملية .
وليس من الحكمة ولا من الشرع في شيء أن يترك الصلاة بقومه ، لأجل مثل هذه المسائل
الخلافية ، فيعجزوا عن إقامة إمام لهم ، أو يقدموا إماما جاهلا ، أو مبتدعا لا
يقتصر على فعل تلك المسائل الخلافية ، بل ربما تعدى شره إلى نشر بدع أخرى قولية أو
عملية .
بل يستحب للإمام أن يفعل
بعض المسائل الخلافية ، والتي تخالف ما يترجح لديه هو ، إن كان في ذلك تأليف لقومه
على دعوته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف ، كما
استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفا للمأموم " انتهى من " الاختيارات الفقهية "
(50) .
رابعاً:
إذا كان من المشروع للإمام أن يصلي بالناس ، وإن خالف ما ترجح عنده في المسائل
الاجتهادية ، حيث اقتضت المصلحة الشرعية ذلك ، فشأن المأموم أسهل ، وصلاته وراء من
يخالف في بعض موراد الاجتهاد من باب أولى ، خاصة إذا ترتب على صلاته خلفه شيء من
المصالح الشرعية ، كتأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، ونحو ذلك ، أو كان تركه للصلاة
خلفه مما يفوت عليه صلاة الجماعة بالكلية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ولو ترك الإمام ركناً يعتقده المأموم ، ولا يعتقده الإمام : صحت صلاته خلفه ، وهو
إحدى الروايتين عن أحمد ، ومذهب مالك ، واختيار المقدسي " .
وقال أيضا :
" لو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه ، مما يسوغ فيه الاجتهاد : صحت صلاته
خلفه ، وهو المشهور عن أحمد " انتهى من "الاختيارات الفقهية" (70) .
وقال أيضا :
ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد ، فإذا قنت قنت معه ،
وإن ترك القنوت لم يقنت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما جعل الإمام
ليؤتم به " وقال : " لا تختلفوا على أئمتكم " ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال : "
يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم " .
" مجموع الفتاوى " ( 23 / 115 ، 116 ) .
وعليه فلا ينبغي لكم التردد في جواز الصلاة خلف من يخالفكم في هذه المسائل وأشباهها ،
والقول بخلاف هذا قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة .
وسئل شيخ الإسلام ابن
تيمية - رَحمه اللّه - :
هل تصح صلاة المأموم خلف من يخالف مذهبه ؟ .
فأجاب :
وأما صلاة الرجل خلف من
يخالف مذهبه : فهذه تصح باتفاق الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والأئمة الأربعة ،
ولكن النزاع في صورتين :
إحداهما : خلافها شاذ ، وهو ما إذا أتي الإمام بالواجبات كما يعتقده المأموم ،
لكن لا يعتقد وجوبها مثل التشهد الأخير إذا فعله من لم يعتقد وجوبه ، والمأموم
يعتقد وجوبه ، فهذا فيه خلاف شاذ ، والصواب الذي عليه السلف وجمهور الخلف : صحة
الصلاة .
والمسألة الثانية : فيها نزاع مشهور ، إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل
أن يترك قراءة البسملة سرّاً وجهراً ، والمأموم يعتقد وجوبها ، أو مثل أن يترك
الوضوء من مس الذكر ، أو لمس النساء ، أو أكل لحم الإبل ، أو القهقهة ، أو خروج
النجاسات ، أو النجاسة النادرة ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك ، فهذا فيه قولان
: أصحهما : صحة صلاة المأموم ، وهو مذهب مالك ، وأصرح الروايتين عن أحمد في مثل
هذه المسائل ، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي ، بل هو المنصوص عنه ، فإنه كان
يصلي خلف المالكية الذين لا يقرؤون البسملة ، ومذهبه وجوب قراءتها ، والدليل على
ذلك : ما رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يصلون
لكم فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن اخطؤوا فلكم وعليهم " فجعل خطأ الإمام عليه دون
المأموم .
وهذه المسائل إن كان مذهب الإمام فيها هو الصواب ، فلا نزاع ، وإن كان مخطئاً فخطؤه
مختص به ، والمنازع يقول : المأموم يعتقد بطلان صلاة إمامه ، وليس كذلك ، بل
يعتقد أن الإمام يصلي باجتهاد أو تقليد ، إن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ، فله أجر،
وهو ينفذ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد ، وهذا أعظم من اقتدائه به ، فإن كان
المجتهد حكمه باطلاً : لم يجز إنفاذ الباطل ، ولو ترك الإمام الطهارة ناسياً لم
يُعِد المأموم عند الجمهور ، كما ثبت عن الخلفاء الراشدين ، مع أن الناسي عليه
إعادة الصلاة ، والمتأول لا إعادة عليه .
فإذا صحت الصلاة خلف من عليه الإعادة : فلأن تصح خلف من لا إعادة عليه أولى ،
والإمام يعيد إذا ذكر دون المأموم ، ولم يصدر من الإمام ولا من المأموم تفريط ؛ لأن
الإمام لا يرجع عن اعتقاده بقوله ، بخلاف ما إذا رأى على الإمام نجاسة ولم يحذره
منها ، فإن المأموم هنا مفرِّط ، فإذا صلى يعيد ؛ لأن ذلك لتفريطه ، وأما الإمام :
فلا يعيد في هذه الصورة في أصح قولي العلماء ، كقول مالك ، والشافعي في القديم ،
وأحمد في أصح الروايتين عنه .
وعلم المأموم بحال الإمام في صورة التأويل يقتضي أنه يعلم أنه مجتهد مغفور له خطؤه
، فلا تكون صلاته باطلة ، وهذا القول هو الصواب المقطوع به ، واللّه أعلم .
" مجموع الفتاوى " ( 23 / 378 – 380 ) .
وقال البهوتي في " الروض
المربع " :
ومن ائتم بقانت في فجر تابع الإمام وأمَّن أ.هـ .
أي : تابعه في دعائه .
" حاشية الروض " ( 1 / 220 ) .
وقال علماء اللجنةالدائمة :
استحب مالك القنوت في الركعة الأخيرة من الصبح قبل الركوع ، وذهب الشافعي إلى أن
القنوت سنة بعد الركوع من الركعة الأخيرة من الصبح ، وقال بذلك جماعة من السلف
والخلف ، واستدلوا بما تقدم من حديث البراء ونحوه ، ونوقش بأن النبي صلى الله عليه
وسلم فعل ذلك في النوازل فقط ثم ترك ، وبأن الحديث لم يخص القنوت بالفجر بل دل على
مشروعيته في المغرب والفجر في النوازل ، ودلت الأحاديث الأخرى على تعميمه في سائر
الفرائض ، وهم يخصون القنوت بالفجر ويقولون بالاستمرار ، واستدلوا أيضا بما روي من
أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا " ، ونوقش بأن
هذه الجملة وردت في بعض الأحاديث لكنها ضعيفة ؛ لأنها من طريق أبي جعفر الرازي ،
وقد قال فيه عبد الله بن أحمد : ليس بالقوي ، وقال علي بن المديني : إنه يخلط ،
وقال عمرو بن علي الفلاس : صدوق سيئ الحفظ ، وإنما أخذ به من أخذ من الأئمة لتوثيق
جماعة من أهل الجرح والتعديل أبا جعفر الرازي ولشهادة بعض الأحاديث له ، لكن في سند
الشاهد عمرو بن عبيد القدري وليس بحجة .
وبالجملة : فتخصيص صلاة الصبح بالقنوت من المسائل الخلافية الاجتهادية ، فمن صلى
وراء إمام يقنت في الصبح خاصة قبل الركوع أو بعده فعليه أن يتابعه ، وإن كان الراجح
الاقتصار في القنوت بالفرائض على النوازل فقط .
الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن منيع .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 7 / 42 – 45 ) .
وينظر جواب السؤال رقم (59925)
.
رابعاً :
إذا صلَّيتم خلف من يقنت في الفجر فنسي القنوت فسجد للسهو فالظاهر أنه يلزمكم
متابعته وإن كنتم ترون أنه بدعة ؛ وذلك لأن ترك السجود وراءه فيه نقص في المتابعة
ووضوح في المخالفة ، وقد أُمر المأموم بمتابعة الإمام ونُهي عن الاختلاف عليه ،
وحتى لو صلَّى جالساً – مع أن القيام في الصلاة من الأركان – فإن المأموم يؤمر
بالجلوس ، وقد سبق أن نقلنا فتاوى لبعض أهل التحقيق في متابعة الإمام في القنوت حتى
وإن كان المأموم لا يرى مشروعيته.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به
فلا تختلفوا عليه ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك
الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون " .
رواه البخاري ( 689 ) ومسلم ( 414 ) .
ومعنى " فلا تختلفوا عليه " أي : في الأفعال ، وهو ما فسَّره الحديث نفسه بقوله "
... فإذا ركع فاركعوا ... " ، وليس كما قاله بعض الفقهاء من أنه الاختلاف في النية
، أوالاختلاف في الحال .
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - :
فتبيّن بهذا أنَّ الحديثَ لا يُراد به اختلافُ النِّيةِ ، ولهذا جاء التَّعبيرُ
النَّبويُّ بقوله : " لا تختلفوا عليه " ولم يقل : لا تختلفوا عنه فتنووا غير ما
نَوى ، وبين العبارتين فَرْقٌ ، فإذا قيل : لا تختلفْ على فلان : صار المرادُ
بالاختلافِ المخالفة ، كما يُقال : لا تختلفوا على السُّلطان ، أي : لا تنابذوه
وتخالفوه فيما يأمرُكم به مِن المعروفِ ، وقد فَسَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم
عَدَمَ المخالفةِ بقوله : " فإذا كَبَّرَ فكبِّروا ، وإذا رَكَعَ فاركعوا ... " إلخ
الحديث .
فصار المرادُ بقوله : " لا تختلفوا عليه " أي : في الأفعالِ .
" الشرح الممتع " ( 4 / 258 ) .
نسأل الله أن يوفقكم لما فيه رضاه .
والله أعلم
تعليق