الحمد لله.
أولاً :
روى البخاري (5688) – واللفظ له - ومسلم (2215) عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ : ( شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ ) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَالسَّامُ الْمَوْتُ .
وللعلماء قولان في قوله : ( شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ ) : فقيل : هو على عمومه ، فيشمل كل داء .
وقيل : هو عام أريد به الخصوص ، فالمراد به بعض الأدواء .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قِيلَ إِنَّ قَوْله " كُلّ دَاء " تَقْدِيره : يَقْبَل الْعِلَاج بِهَا , فَإِنَّهَا تَنْفَع مِنْ الْأَمْرَاض الْبَارِدَة , وَأَمَّا الْحَارَّة فَلَا . نَعَمْ ، قَدْ تَدْخُل فِي بَعْض الْأَمْرَاض الْحَارَّة الْيَابِسَة بِالْعَرْضِ فَتُوَصِّل قُوَى الْأَدْوِيَة الرَّطْبَة الْبَارِدَة إِلَيْهَا بِسُرْعَةِ تَنْفِيذهَا .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَوْله " مِنْ كُلّ دَاء " هُوَ مِنْ الْعَامّ الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاصّ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْع شَيْء مِنْ النَّبَات مَا يَجْمَع جَمِيع الْأُمُور الَّتِي تُقَابِل الطَّبَائِع فِي مُعَالَجَة الْأَدْوَاء بِمُقَابِلِهَا , وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهَا شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء يَحْدُث مِنْ الرُّطُوبَة .
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : الْعَسَل عِنْد الْأَطِبَّاء أَقْرَب إِلَى أَنْ يَكُون دَوَاء مِنْ كُلّ دَاء مِنْ الْحَبَّة السَّوْدَاء , وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ الْأَمْرَاض مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبه الْعَسَل لَتَأَذَّى بِهِ , فَإِنْ كَانَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَل " فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ " الْأَكْثَر الْأَغْلَب فَحَمْل الْحَبَّة السَّوْدَاء عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى " انتهى ملخصا .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" وقوله : ( شفاء من كل داء ) مثل قوله تعالى : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) الأحقاف/ 25 أي : كل شيء يقبل التدمير ونظائره " انتهى .
"زاد المعاد" (4 /297) .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : " تَكَلَّمَ النَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث وَخَصُّوا عُمُومه وَرَدُّوهُ إِلَى قَوْل أَهْل الطِّبّ وَالتَّجْرِبَة , وَلَا خَفَاء بِغَلَطِ قَائِل ذَلِكَ , لِأَنَّا إِذَا صَدَّقْنَا أَهْل الطِّبّ - وَمَدَار عِلْمهمْ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّجْرِبَة الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى ظَنّ غَالِب - فَتَصْدِيق مَنْ لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ كَلَامهمْ " اِنْتَهَى من "الفتح" (10/145)
وقال الكرماني : " يحتمل إرادة العموم منه بأن يكون شفاء للكل لكن بشرط تركيبه مع الغير ولا محذور فيه ، بل تجب إرادة العموم ؛ لأن جواز الاستثناء معيار وقوع العموم فهو أمر ممكن ، وقد أخبر الصادق عنه اللفظ عام بدليل الاستثناء ، فيجب القول به " انتهى .
"عمدة القاري" (31 /301)
وإرادة العموم ظاهرة من ظاهر اللفظ ، ويدل عليها الاستثناء في قوله : ( إلا السام ) فلولا إرادة إفادة العموم لم يجز وقوع مثل هذا الاستثناء ، واستثناؤه الموت يدل على أن ما عداه من الداء ينفع في علاجه تناول الحبة السوداء ، ولكن ذلك متوقف على انتفاء الموانع وحصول الشروط .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" مُجَرَّدُ الْأَسْبَابِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ ؛ فَإِنَّ الْمَطَرَ إذَا نَزَلَ وَبُذِرَ الْحَبُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حُصُولِ النَّبَاتِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِيحٍ مُرْبِيَةٍ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الِانْتِفَاءِ عَنْهُ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ الشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ .
وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَا يُولَدُ بِمُجَرَّدِ إنْزَالِ الْمَاءِ فِي الْفَرْجِ ، بَلْ كَمْ مَنْ أَنْزَلَ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ خَلْقَهُ فَتَحْبَلُ الْمَرْأَةُ وَتُرَبِّيهِ فِي الرَّحِمِ وَسَائِرُ مَا يَتِمُّ بِهِ خَلْقُهُ مِنْ الشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (8 / 70) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" كثير من الناس لا تنفعه الأسباب ولا الرقية بالقرآن ولا غيره ؛ لعدم توافر الشروط , وعدم انتفاء الموانع , ولو كان كل مريض يشفى بالرقية أو بالدواء لم يمت أحد , ولكن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء , فإذا أراد ذلك يسر أسبابه , وإذا لم يشأ ذلك لم تنفعه الأسباب " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (8 / 61) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن طريقة التداوي بالحبة السوداء تختلف باختلاف الداء فقال :
" مَعْنَى كَوْن الْحَبَّة شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل فِي كُلّ دَاء صِرْفًا بَلْ رُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُفْرَدَة , وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُرَكَّبَة , وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مَسْحُوقَة وَغَيْر مَسْحُوقَة , وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ أَكْلًا وَشُرْبًا وَسَعُوطًا وَضِمَادًا وَغَيْر ذَلِكَ " انتهى من "الفتح" (10/144).
وهذا التنوع في استعمالها راجع إلى أهل الخبرة والمعرفة والتجربة ، أو إلى الأبحاث الطبية الحديثة ، المبنية على التجربة وعلى خصائص الحبة السوداء وتأثيرها على الداء .
وقد روى البخاري (5687) عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا : عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ وَفِي هَذَا الْجَانِبِ ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنْ السَّامِ ) قُلْتُ وَمَا السَّامُ ؟ قَالَ الْمَوْتُ .
وعلى هذا ، فلا مانع من اشتراط أخذ الحبة السوداء بطريقة معينة ، يختلف باختلاف المرض ، ولكن بشرط أن يثبت نفع هذه الطريقة إما بالتجربة وإما بالأبحاث بالعلمية .
أما اشتراط قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات ، أو الدعاء عند تناولها بدعاء مخصوص ، فمثل هذه الشروط لا أصل لها .
ثانياً :
أما قول السائل إنه يتمنى الموت في كل لحظة لما ألمّ به من الداء : فهذا خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الصبر على البلاء والرضا بالقضاء .
والله تعالى يبتلي عبده ليكفر عنه سيئاته ويرفع درجاته ، فقد روى الترمذي (2398) وصححه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : (الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وروى البخاري (6351) ومسلم (2680) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) .
قال النووي رحمه الله :
" فِيهِ : التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَض أَوْ فَاقَة أَوْ مِحْنَة مِنْ عَدُوّ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا , وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِر عَلَى حَاله فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوه فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتْ الْحَيَاة خَيْرًا . . . إِلَخْ , وَالْأَفْضَل الصَّبْر وَالسُّكُون لِلْقَضَاءِ " انتهى .
فالواجب عليك أن تصبر على ما كتبه الله عليك ، وانظر إلى حسن عاقبته وهي مغفرة الذنوب ، والثواب الجزيل إن صبرت (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10 ، وطول العمر للمؤمن خير له لأنه يزداد بذلك عملاً صالحاً .
فقد روى مسلم (2682) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : ( لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ؛ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا )
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (71236) .
ونسأل الله تعالى لك الشفاء والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة .
والله أعلم .
تعليق