الحمد لله.
الأدلة الواردة في شأن يأجوج ومأجوج اشتملت على بعض بعض الإشارات التي تدعو إلى التأمل لمعرفة مَن سيخرج فيهم هؤلاء القوم المفسدون ، إذ لا سبيل لمعرفة ذلك سوى بالوحي المعصوم.
ولذلك يمكننا القول إن الأدلة التي أخبرت عن هذا الموضوع على قسمين :
الأول : أدلة ظاهرها خروج يأجوج ومأجوج على جميع الناس
، وبلوغ أذاهم إلى جميع أهل الأرض ، وهذه الأدلة هي :
1- قوله تعالى : ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) الكهف/94. فكلمة ( الأرض ) كلمة مطلقة ظاهرها
إمكان بلوغ أذاهم إلى جميع بقاء الأرض .
2- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي السَّدِّ قَالَ :
( يَحْفِرُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَخْرِقُونَهُ قَالَ الَّذِي
عَلَيْهِمْ : ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا ، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَأَشَدِّ
مَا كَانَ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مُدَّتَهُمْ - وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ - قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ : ارْجِعُوا
فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَاسْتَثْنَى - قَالَ :
فَيَرْجِعُونَ فَيَجِدُونَهُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ ، فَيَخْرِقُونَهُ
فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ ، فَيَسْتَقُونَ الْمِيَاهَ وَيَفِرُّ النَّاسُ
مِنْهُمْ ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ ، فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً
بِالدِّمَاءِ ، فَيَقُولُونَ : قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَعَلَوْنَا مَنْ
فِي السَّمَاءِ . قَسْوَةً وَعُلُوًّا ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي
أَقْفَائِهِمْ ، فَيَهْلِكُونَ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ
دَوَابَّ الْأَرْضِ تَسْمَنُ وَتَبْطَرُ وَتَشْكَرُ شَكَرًا مِنْ لُحُومِهِمْ )
رواه الترمذي (3153) وقال : هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه مثل هذا .
وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام : ( وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى
النَّاسِ ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا : ( فَيَخْرِقُونَهُ فَيَخْرُجُونَ
عَلَى النَّاسِ )، فكلمة ( الناس ) كلمة عامة تشمل في ظاهرها عمومَ الناس ، وليس
فئة خاصة منهم .
وكذلك قولهم : ( قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ ) ظاهره أنهم يقصدون جميع أهل الأرض
؛ لأن ( مَن ) مِن ألفاظ العموم .
الثاني : أحاديث ظاهرها خروج يأجوج ومأجوج على
المسلمين في البلاد المباركة ، بلاد الأنبياء التي تكون فيها الملحمة الكبرى ،
ويخرج فيها الدجال ، ويحشر الناس إليها يوم القيامة : بلاد الشام والجزيرة وما
حولها ، وهذه الأحاديث هي :
1- عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ :
( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ ،
فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ - وَحَلَّقَ
بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ :
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟! قَالَ :
نَعَمْ ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ )
رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" إنما خص العرب بالذكر لأنهم أول من دخل في الإسلام ، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت
كان الهلاك أسرع إليهم ". انتهى من" فتح الباري " (13/11)
ويقول أيضا :
" خص العرب بذلك لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم ". انتهى من" فتح الباري "
(13/107)
وكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله يدل على أن فتنة يأجوج ومأجوج تصيب المسلمين في
الغالب ، وإنما ذكر العرب لأنهم معظم المسلمين ، ولا ذكر لغير المسلمين في هذه
الفتنة .
2- حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه - وهو حديث طويل يصف فتنة الدجال ونزول
المسيح ابن مريم عليه السلام وقتله له – وكان مما جاء فيه :
( فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ – يعني الدجال - إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ
دِمَشْقَ...فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ ،
وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ
بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ...فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ
إِلَى عِيسَى : إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ
بِقِتَالِهِمْ ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى
بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ
فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ
عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ
مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى
وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ
فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ
عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ
شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ
عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ
الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُرْسِلُ
اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ ، فَيَغْسِلُ
الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي
ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ .... فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ
اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ، فَتَقْبِضُ رُوحَ
كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ
فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ )
رواه مسلم (2937)
ظاهر هذا الحديث يدل على أن خروج يأجوج ومأجوج على المسلمين في بلاد البعثة النبوية
وبلاد الشام وما حولها :
فذِكْرُ بحيرة طبرية – وهي في بلاد الشام – .
وانحصار عيسى عليه السلام والمؤمنين معه في مكان ضيق .
وإلقاء جثث يأجوج ومأجوج حيث شاء الله – يعني من الأرض -.
كلها قرائن تشعر أن هذه الفتنة لا تعم الأرض كلها ، وإن كانت باقي بقاع الأرض تتأثر
بما يحدث في هذه البلاد المباركة ، ولكنه ليس التأثر الرئيس .
ثم قوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ( وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ
يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ )
يدل على أن شرار الناس هؤلاء لم يقتلهم يأجوج ومأجوج ، وبالتأكيد لم يكونوا مع
المؤمنين أتباع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، فلم يبق إلا أنهم شرار الناس في
باقي الأرض التي لم يمر عليها يأجوج ومأجوج .
وأما الأحاديث الأولى التي ظاهرها إصابة الفتنة عموم الناس فتحمل على أنها من قبيل
العام الذي يراد به الخاص ، بدلالة السياق أو الأحاديث الأخرى ، كحديث زينب بنت جحش
، وحديث النواس بن سمعان .
وعلى كل حال : لا يمكننا الجزم بأحد الاحتمالين لعدم قيام الأدلة الظاهرة على
الترجيح بينهما، والعلم عند الله تعالى ، والمهم هو أخذ العبرة والعظة من هذه
الفتنة العظيمة .
وانظر جواب السؤال رقم : (3437)
والله أعلم .
تعليق