الحمد لله.
أولاً :
هذا الحديث رواه البخاري (3297) ومسلم (2233) .
( ذا الطُّفْيَتين ) : هما الخطان الأبيضان على ظهر الحية .
( الأبتر ) : نوع من الحيات أزرق ، قصير الذَّنَب ، أو لا ذَنَبَ له ، وقال الداودي : هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا .
( يطمسان البصر ): تمحو نور العين وإبصارها .
( الحَبَل ) : الجنين .
انظر شرح الحديث للنووي في " شرح مسلم " (14/230) ، والحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (6/348) .
ثانياً :
من روايات الحديث
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" في رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر : (ويذهب البصر) ، وفي حديث عائشة : (فإنه يلتمس البصر) ، وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر : (فإنه يسقط الولد) ، وفي حديث عائشة : (ويصيب الحبل) ، وفي رواية أخرى عنها : (ويذهب الحبل) ، وكلها بمعنى – أي بمعنى واحد - " انتهى من " فتح الباري " (6/348) .
ثالثاً :
سبب طمس البصر وإسقاط الحبل
اختلف شراح الحديث في سبب فقد البصر وإسقاط الجنين عند رؤية هذا النوع من الحيات :
القول الأول : أنها تؤذي بالنظر المجرد إليها ، لخاصية جعلها الله في نظر هذه الحيات ، تُفقِد الإنسان بصره وتُسقط الحمل ، من غير لسع ولا لدغ ، كأذى العائن يؤذي من يصيبه بعينه مباشرة .
قال القاضي عياض عن هذا القول : إنه أظهر . "إكمال المعلم" (7/168 ، 169) .
وكذا قال القرطبي في "المفهم" (5/533) ، والنووي في "شرح مسلم" (14/230) والمناوي في "فيض القدير" (2/59) .
وروى النضر بن شميل عن أبي خيرة أنه قال : "الأبتر من الحيات أزرق مقطوع الذنب ، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها " انتهى من " كشف المشكل من حديث الصحيحين " لابن الجوزي (ص/379) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية ، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية ، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ، ومنها : ما تؤثر في طمس البصر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها : ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة ، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالاتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية ، والرقى ، والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل" انتهى من " زاد المعاد " (4/153)، ونحوه " بدائع الفوائد " (2/229) ، وفي "فتح الباري" (10/200) .
القول الثاني : أن سبب فقد البصر وسقوط الحمل هو اللدغ
واللسع ، والسم المصاحب لذلك النهش الذي يؤذي كل من يصيبه .
قال الإمام الزهري – بعد روايته الحديث عن سالم عن ابن عمر - : "نرى ذلك من سميهما"
انتهى من " صحيح مسلم " (2233) .
وقال الإمام الخطابي رحمه الله :
" معنى قوله : ( يلتمسان البصر ) قيل فيه وجهان :
أحدهما : أنهما يخطفان البصر ويطمسانه وذلك لخاصية في طباعهما ، إذا وقع بصرهما على
بصر الإنسان .
وقيل : معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش " انتهى من " معالم السنن " (4/157)
ثم رجح الخطابي القول الأول .
القول الثالث : أن إسقاط الحمل سببه الرعب الذي يصيب
المرأة إذا رأت ذلك النوع المخيف من الحيات .
ذكر هذا القول القاضي عياض ، ولكنه رجح القول الأول ، فقال :
" وذلك بالروع منه ، أو بخاصته كما تقدم ، وهو أظهر ، إذ يشركه غيره في الروع "
انتهى من " إكمال المعلم " (7/168-169)
وذكره النووي رحمه الله "شرح مسلم" (14/230) ، وصاحب "عون المعبود" (14/111) ،
وغيرهم من الشراح ، بل ظاهر كلام الإمام النووي ترجيح هذا التفسير لسقوط الحبل ،
أما إذهاب البصر فرجح القول الأول .
ولكن رد بعض العلماء هذا القول فقالوا :
" لا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك بالترويع ؛ لأنَّ ذلك الترويعَ ليس خاصًّا
بهذين النوعين ، بل يعمُّ جميع الحيَّات ، فتذهب خصوصيَّة هذا النوع بهذا الاعتناء
العظيم ، والتحذير الشديد ، ثمَّ إن صحَّ هذا في طرح الحبل ، فلا يصحُّ في ذهاب
البصر ، فإنَّ الروع لا يذهبه " انتهى من كلام أبي العباس القرطبي في " المفهم لما
أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (5/533-534) .
فتبين بما سبق أن العلماء اختلفوا في تفسير الحديث ،
إذ يحتمل أن سبب أذية هذا النوع من الحيات هو اللسع والنهش الذي يرافقه سم شديد
يؤثر في البصر وفي الحمل ، كما يحتمل أن هذا النوع من الحيات يلحق الأذى بالبصر
وبالجنين عن بُعد بمجرد النظر إليه ، وذلك ليس ببعيد ولا يستحيل ، كما يقع ذلك من
العائن .
كما يحتمل أن سبب إسقاط الحمل هو الرعب الذي يصيب المرأة الحامل بسبب منظر الحية
المخيف .
فالله أعلم بما هو الصواب من ذلك ، وأحوال المخلوقات لا يحيط بها إلا خالقها ،
والعلم يكتشف كل يوم شيئا جديدا من أمور الكون وأحوال الخلق .
والله أعلم .
تعليق