الحمد لله.
المطر من أعظم نعم الله تعالى على البشر ، جعله الله سببا للحياة ، ومظهرا من أعظم مظاهر النعم العامة التي بها يستبشر الإنسان والحيوان ، وبها تحيا الأرض بعد موتها ، وتنبعث الروح وتنتشر لتمضي سنة الله في خلقه ، ويستدل المخلوق الضعيف على عظمة الخالق سبحانه الذي أبدع الكون على هذا النمط العجيب ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الروم/24 ، ويقول عز وجل : ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) النمل/60 .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب المطر ويستبشر به ، ويفرح لنزوله حتى يكشف عن جسده الشريف عليه الصلاة والسلام ، ليصيب من بركات نعمة الله تعالى .
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطَرٌ ، قَالَ : فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى ) رواه مسلم (898) .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر " انتهى من " شرح مسلم للنووي " (6/196) .
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله :
" وهذا منه صلى الله عليه وسلم تبرك بالمطر ، واستشفاء به ؛ لأن الله تعالى قد سماه رحمة ، ومباركا ، وطهورا ، وجعله سبب الحياة ، ومبعدا عن العقوبة ، ويستفاد منه احترام المطر ، وترك الاستهانة به " انتهى من " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (2/546) .
وفي " صحيح البخاري " : " باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته "، أورد فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم المطر على المنبر ، وكان مما قاله أنس رضي الله عنه : (ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ) رواه البخاري (1033) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" كأن المصنف أراد أن يبين أن تحادُرَ المطر على لحيته صلى الله عليه وسلم لم يكن اتفاقا ، وإنما كان قصدا ، فلذلك ترجم بقوله : " من تمطَّر "، أي : قصد نزول المطر عليه ؛ لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف ، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم " انتهى من " فتح الباري " (2/520) .
ومن هنا كان كثير من السلف الصالح يستحبون التبرك
بالمطر النازل من السماء ، ويستَنُّون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى عقد ابن
أبي شيبة في " المصنف " (6/194-195) بابا بعنوان : " من كان يتمطر في أول مطرة " ،
أي : يتعرض للمطر ويغتسل به .
وروى فيه بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه : " كان يتمطر في أول مطرة ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه : " كان يُخرج ثيابه حتى يخرج سرجه في أول مطرة ".
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه : " كان إذا أراد المطر خلع ثيابه وجلس ،
ويقول : حديث عهد بالعرش "
وهكذا عقد الإمام البخاري رحمه الله في كتابه " الأدب المفرد " (ص/200) بابا بعنوان
: " من استمطر في أول المطر " .
وكذلك فعل ابن حبان حيث عقد في " الصحيح " (13/505) بابا بعنوان : " ذكر ما يستحب
للمرء الاستمطار في أول مطر يجيء في السنة ".
وعند البيهقي في " السنن الكبرى " (3/359) باب بعنوان : " باب البروز للمطر " .
كلهم يروون تحته حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المرفوع ، ويستدلون به على استحباب
البروز والتعرض للمطر في أول نزوله .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة ،
وحديث أنس الذي خرجه البخاري إنما يدل على التمطر بالمطر النازل بالاستسقاء ، وإن
لم يكن أول مطرة في تلك السنة " انتهى من " فتح الباري لابن رجب " (6/316) .
فمن حرص على التعرض للمطر والإصابة منه بالغسل أو
الشرب تبركا به ، فلا بأس عليه ولا حرج .
ولكن لا ينبغي نسبة الشفاء إلى هذا الماء إلا بدليل ، وإن كانت البركة الثابتة لهذا
الماء قد تنفع في العلاج ، ولكن لا نجزم بوقوع العلاج والشفاء ما لم يرد نص شرعي
خاص به ، ولا ينبغي الجزم بذلك للناس ، ومن باب أولى أن لا يقال : إن له قوة علاجية
" خارقة " أو " خاصة " كما ورد في السؤال ، إذ لم يرد على هذه الدعوى دليل شرعي
صحيح ، والناس قد يفتنون في مثل هذه الدعاوى إذا جربوا هذا الماء ولم ينتفعوا به في
الاستشفاء ، فيكون الجهل سببا لفتنتهم ووقوع الشك في قلوبهم .
والله أعلم .
تعليق