الحمد لله.
أولاً:
يعجبنا فيك وأنت في هذا السن رجاحة عقلك حتى إنك فعلتَ شيئاً لم يفعله كثير من الكبار وهو تركك لمشاهدة تلك المقاطع المتحدثة عن القرآن بالباطل وذلك خشية على إيمانك ، فنعْم ما فعلتَ وهذا هو موقف المسلم الواجب عليه اتخاذه تجاه عموم الشبهات التي تورد على السمع ويريد منها أصحابها أن تنفد إلى قلب المسلم لتشككه في دينه ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " ينقدح الشك في القلب بأول عارض من شبهة " ، وقد نصح شيخُ الإسلام ابن تيمية تلميذَه ابنَ القيم بقوله " لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ، ولا تستقر فيها ، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته ، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها : صار مقرّاً للشبهات " فانتفع ابن القيم رحمه الله بهذه الوصية انتفاعاً عظيماً حتى قال " فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك " .
فخيرٌ للمسلم أن يبتعد عن الاطلاع على شبهات أعداء الإسلام ، لا لضعف في الإسلام بل لضعف المحل الذي تورَد عليه تلك الشبهات ، وهو القلب ، وإلا فإن حجة الإسلام دامغة وهو صخرة إذا وقع على الباطل حطَّمه ، وإذا وقع عليه الباطل تحطَّم ، وها هو مع كل ما يكيده له أعداؤه من الافتراءات في وسائل الإعلام جميعها ومع وجود الألوف من جنودهم في كل مكان لنشر الباطل والكذب عليه فإنه أسرع وأكثر الديانات انتشاراً ولله الفضل والمنَّة .
وانظر جواب السؤال رقم ( 32492 ) .
ثانياً:
اعلم – أخانا الفاضل – أن القرآن الكريم لو كان فيه ما يقولونه من تناقض واختلاف ،
لرأيتَ البلغاء والفصحاء أو أصحاب المكر والكيد ، ممن شهدوا التنزيل ، أول الناس
إسراعاً لإظهار هذا والطعن فيه على القرآن ، ولكن لأنهم كانوا يحترمون عقولهم ، فلم
يأتوا بما ليس تناقضاً ليصفوه بذلك ، ولا جاءوا بمواضع لنقدها وهي غاية في الفصاحة
والبلاغة ، وأما من جاء بعد أولئك من أهل الباطل فقد قلَّ علمهم ، وذهب حياؤهم ،
فلا يهمهم أن يوصفوا بالغباء والجهل ، فكل غايتهم أن يرموا سهامهم المسمومة ،
فلعلَّ بعضها أن يصيب ضعيف القلب وهذه غايتهم .
قال ابن قتيبة الدِّينَوري – رحمه الله - :
وقد اعترض كتابَ اللّه بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا ( ما تَشابَهَ
مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) آل عمران/ 7 بأفهام كليلة
، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ، فحرّفوا الكلام عن مواضعه ، وعدلوه عن سبله ، ثم
قضوا عليه بالتّناقض والاستحالة واللّحن وفساد النّظم والاختلاف ، وأدلوا في ذلك
بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر والحدث الغرّ ، واعترضت بالشبه في القلوب وقدحت
بالشكوك في الصدور ، ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم و تأوّلهم : لسبق إلى الطعن
به من لم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحتجّ عليه بالقرآن ، ويجعله
العلَم لنبوّته ، والدليل على صدقه ويتحداه في موطن بعد موطن على أن يأتي بسورة من
مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام
بالألسنة الحداد واللّدد، في الخصام ، مع اللّب والنّهى وأصالة الرّأي ، وقد وصفهم
اللّه بذلك في غير موضع من الكتاب ، و كانوا مرّة يقولون : هو سحر ، ومرة يقولون :
هو قول الكهنة ، ومرة : أساطير الأولين ، ولم يحك اللّه تعالى عنهم - ولا بلغنا في
شي ء من الروايات - أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون .
فأحببت أن أنضح عن كتاب اللّه ، وأرمي من ورائه ، بالحجج النيّرة والبراهين البيّنة
وأكشف للناس ما يلبسون .
فألفت هذا الكتاب جامعاً لـ " تأويل مشكل القرآن " ، مستنبطاً ذلك من التفسير
بزيادة في الشرح والإيضاح ، وحاملا ما لم أعلم فيه مقالا لإمام مطّلع على لغات
العرب ، لأري به المعاند موضع المجاز وطريق الإمكان ، من غير أن أحكم فيه برأي ، أو
أقضي عليه بتأويل .
" تأويل مشكل القرآن " ( ص 23 ) .
وانظر جوابي السؤالين (
13804 ) و (
34234 ) .
ثالثاً:
حتى يطمئن قلبك أكثر وأكثر فنرجو منك التأمل فيما تميَّز به القرآن حتى صار آية
بيِّنة يشهد العقلاء على أنه ليس كلام البشر ، وهذه الأمور هي :
1. بلاغة القرآن التي سلبت عقول العرب الفصحاء البلغاء واتساق نظمه من أوله وآخره
فلا تجد فيه آية وإلا وفيها من البلاغة ما يبهر العقول .
قال القاضي عياض – رحمه الله - :
وحكى الأصمعى أنه سمع كلام جارية فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ؟ فقالت : أو
يعدُّ هذا فصاحة بعد قول الله تعالى ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) القصص/ 7
، فجمع في آية واحدة بين أمريْن ونهييْن وخبريْن وبشارتيْن ؟! .
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ( 1 / 263 ) .
2. ما جاء في القرآن من ذِكر وقائع ستحدثُ في المستقبل ، وقد حدثت بالفعل ، ومن ذلك
قوله تعالى ( ألم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون َ . فِي بِضْعِ سِنِينَ ) الروم/ 1 - 4) .
وانظر أمثلة أخرى في جواب السؤال رقم (
23475 ) .
3. ما جاء في القرآن من الإخبار عن الأمم السابقة بما لم يبلغه علم الناس يومئذ ،
بخبر ، ولا للعرب فيه كتاب ، ولا يعرفه العرب ، قال تعالى ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن
قَبْلِ هَذَا ) هود/ 49 .
4. ما جاء في القرآن من ذِكر لحقائق في خلق الإنسان وفي البحار والفضاء ، مما صار
مقطوعاً به الآن ، ومن أوضحه : مراحل خلق الجنين مما اكتشف تفاصيله العلم الحديث
كما في كتاب الله ، قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) الحج/ 5 .
رابعاً:
من أفضل ما تستعين به – بعد الله تعالى – لدفع تلك الشبهات هو طلب العلم ، وهو
الصخرة التي ذكرناها في أول الجواب ، وهو الزجاجة المصمتة الصلبة الصافية في كلام
شيخ الإسلام ابن تيمية ، فمن تعلَّم العلمَ المؤصل المتين لا توقفه شبهة من تلك
الشبهات ، إن شاء الله ، ولا يتوقف عندها ؛ بل يقذف بالحق الذي معه على باطلها ،
فيدمغه ، فإذا هو زاهق .
قال ابن عبد البر – رحمه الله - :
وقال عبد الله بن وهب - صاحب مالك - : وكان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم ،
فولع مني الشيطان في ذكر عيسى بن مريم كيف خلقه الله عز وجل ونحو هذا ، فشكوت ذلك
إلى شيخ فقال لي : ابن وهب ! قلت : نعم ، قال : اطلب العلم ، فكان سبب طلبي العلم .
" جامع بيان العلم وفضله " ( 1 / 26 ، 27 ) .
والنصيحة لك أن تبقى على ما أنت عليه من البُعد عن الاطلاع على شبهات أعداء الدِّين
والبُعد عن محاورتهم ونقاشهم ، إلى أن يشتد عودُك إيماناً وعلْماً ، ثم لك بعد ذلك
أن تسلَّ سيفك للدفاع عن هذا الدين كما فعله أئمة العلم قديماً وحديثاً ، وانظر
جواب السؤال رقم (
97726 ) .
لكن إن صادفك شيء من ذلك ، على الرغم منك ، ووقع في نفسك منه شيء ، دون قصد لتتبع
ذلك ، فبادر بعرضه على عالمه ، واسأل من يكشف عنك غمته ؛ فإذا أنت مستريح منه ،
بإذن الله .
وكل من أعطى القرآن حقَّه من التدبر علم أنه من عند الله ، وأنه ليس في كلامه تعالى
اختلاف ولا تناقض ، قال تعالى ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء/ 82 ، وهذا الاختلاف والتناقض هو
الواقع حقا فيما في أيدي النصارى اليوم من الأناجيل ؛ فإن فيها من الاختلاف
والتناقض الشيء الكثير ، كما بيَّنه الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق
" ، وانظر جواب السؤال رقم (
47516 ) .
وإذا رزقك الله علماً في الشريعة وأردت الاطلاع على ما يتعلق بطعونات أعداء الإسلام
على القرآن ، فلا تنظر في شبهاتهم ، بل انظر في كتب أهل السنَّة التي تنقل ذلك
وتدفعه ، وانظر في ذلك كتابين مهمين : الأول " تأويل مشكل القرآن " للإمام ابن
قتيبة الدينوري ، والثاني كتاب " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " للعلامة محمد
الأمين الشنقيطي .
ونسأل الله تعالى أن يثبِّت قلبك على دينه وأن يسددك ويهديك لما يحب ويرضى .
والله أعلم
تعليق