الحمد لله.
أولا :
الأحاديث الواردة في قصة " تأبير النخل " كثيرة كما يقول البزار : " رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم : أنس ، وعائشة ، ورافع بن خديج ، وجابر بن عبد الله ، ويسير بن عمرو " انتهى من " البحر الزخار " (3/154) .
ونحن نذكرها هنا مع بيان ألفاظها وتخريجها :
الحديث الأول :
ولفظه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم النهي عن تأبير النخل ، وإنما أخبرهم بالظن ، فعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَقَالَ : ( مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ ) فَقَالُوا : يُلَقِّحُونَهُ ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ). قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا ، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
رواه كل من أبي عوانة وإسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه .
أخرجه مسلم في " صحيحه " (رقم/2361)، وأحمد في " المسند " (3/15) وعبد بن حميد في " المسند " – كما في " المنتخب " (ص/64) - وأبو داود الطيالسي في " المسند " (1/186) – ومن طريقه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3/48) –، وأخرجه ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (1/165)، وأبو يعلى في " المسند " (2/12)، والشاشي في " المسند " (1/68، 70)، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " (4/ 372( كلهم من طريق أبي عوانة عن سماك.
أما رواية إسرائيل عن سماك فأخرجها أحمد في " المسند " (3/18) وابن ماجه في " السنن " (رقم/2470)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (4/423)، وفي " شرح معاني الآثار " (3/48)، والشاشي في " المسند " (1/69) .
ولفظ رواية إسرائيل قريب جدا من لفظ رواية أبي عوانة ، إلا أنه لم يقل : ( ولا تؤاخذوني بالظن)، بل قال مكانه : ( والظن يخطئ ويصيب ) .
ورواه كل من حفص بن جميع وأسباط بن نصر عن سماك ، كما عند البزار في " البحر الزخار " (3/154) ولم يذكر ألفاظهما .
الحديث الثاني :
ولفظه قريب من الحديث الأول ، لا يشتمل على جزم النهي ، وإنما على الظن منه عليه
الصلاة والسلام .
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : " قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ
النَّخْلَ ، فَقَالَ : ( مَا تَصْنَعُونَ ؟ ) قَالُوا : كُنَّا نَصْنَعُهُ ، قَالَ
: ( لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ) ، فَتَرَكُوهُ ، فَنَفَضَتْ
أَوْ فَنَقَصَتْ ، قَالَ : فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ) قال عكرمة : أو نحو
هذا ) .
رواه مسلم في " صحيحه " (حديث رقم/2362)، وابن حبان في " صحيحه " (1/202) والطبراني
في " المعجم الكبير " (4/280) من طريق النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة وهو ابن عمار ،
حدثنا أبو النجاشي ، حدثني رافع بن خديج .
الحديث الثالث :
ولفظه هو المشتهر بين الناس ، جاء معناه في آخر الحديث السابق ، وهو قوله : (
أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ) أو ( إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ
دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ
فَإِلَيَّ ) .
رواه كل من عفان ، والأسود بن عامر ، وعبد الصمد ، ومحمد بن كثير العبدي عن حماد بن
سلمة ، ورواه حماد من طريقين : عن ثابت ، عن أنس بن مالك وعن هشام بن عروة ، عن
عروة ، عن عائشة : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ : ( لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ) ، قَالَ :
فَخَرَجَ شِيصًا ، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : ( مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ ) قَالُوا :
قُلْتَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ) .
أخرجه مسلم في " صحيحه " (حديث رقم/2363)، وأحمد في " المسند " (20/19) (41/401)،
وابن ماجة في " السنن " (رقم/2471)، والبزار في " البحر الزخار " (13/355) (18/99)،
وأبو يعلي في " المسند " (6/198) (6/237)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "
(4/424)، وابن حبان في " صحيحه " (1/201) .
الحديث الرابع :
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ , قَالَ : " أَبْصَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يُلَقِّحُونَ ، فَقَالَ : ( مَا لِلنَّاسِ؟ )
فَقَالُوا : يُلَقِّحُونَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : ( لَا لِقَاحَ أَوْ مَا أَرَى
اللِّقَاحَ شَيْئًا )، فَتَرَكُوا اللِّقَاحَ ، فَجَاءَ تَمْرُ النَّاسِ شِيصًا ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لَهُ , مَا أَنَا
بِصَاحِبِ زَرْعٍ وَلَا نَخْلٍ لَقِّحُوا ) .
رواه الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (4/425) قال : حدثنا أحمد بن داود بن موسى ،
ثنا عياش بن الوليد الرقام ، ثنا محمد بن الفضيل ، ثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ،
عن جابر به . ومجالد بن سعيد ضعيف الحديث ، كما في " تهذيب التهذيب " (10/41) .
ثانيا :
الخلاصة : أن أصل القصة صحيح بلا شك ، ولكن الاختلاف الوارد في ألفاظها يدل على أن
بعض الرواة نقلوا فيها المعنى وليس النص النبوي ، كما قال العلامة محمد رشيد رضا في
" تفسير المنار " (7/426): " اختلاف الألفاظ يدل على أنها رويت بالمعنى " انتهى.
وقد ذهب الطحاوي إلى أنها حوادث متعددة ، فقال : " قال صلى الله عليه وسلم ما حكاه
عنه طلحة لبعض من رآه يعاني اللقاح ، ثم قال ما حكته عنه عائشة وأنس في قوم آخرين
ممن رآهم يعانون التلقيح ، وقال ما في حديث جابر لقوم آخرين وأنهم يعانون التلقيح ،
فحكى كل من سمعه صلى الله عليه وسلم يقول شيئا مما سمعه يقوله ، وكلهم صادق فيما
حكاه عنه , وكل أقواله التي قالها صلى الله عليه وسلم مما حكاه عنه هؤلاء القوم كما
قال " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (4/425) .
لكن الراجح أنها حادثة واحدة ، إذ من المستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
خاطب أربعة أو خمسة أقوام بذلك ، ثم اعتذر لهم كل على حدة ، ومن المستبعد أيضا أن
تكون عائشة رضي الله عنها قد كانت ترافقه حين مر على القوم الذين يؤبرون النخل ،
فالغالب أنها وأنس بن مالك رضي الله عنهما قد أخذوا الحديث عن غيرهم من الصحابة ،
وبذلك يقوى احتمال اتحاد الحادثة .
ولو طلب منا أن نختار إحدى هذه الألفاظ ونرجح بينها ، لاخترنا اللفظ الأول منها ،
الذي رواه سماك بن حرب ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه ، إذ هو الذي يغلب على الظن أنه
صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لدليلين :
الدليل الأول :
أنه اللفظ الذي قدّمه الإمام مسلم في " صحيحه "، وقد قال العلامة المعلمي رحمه الله
: " عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها ، يقدم الأصح فالأصح " انتهى من "
الأنوار الكاشفة " (ص29) .
الدليل الثاني :
أن اللفظ الأول هو اللفظ الوحيد الذي ذكر كلمة ( الظن )، يصرح النبي صلى الله عليه
وسلم فيها إخباره بما يمليه عليه ظنه في أمور الدنيا ، ولم يأمرهم أمرا تعبديا كما
توهمه ألفاظ حديث رافع وأنس وعائشة وجابر رضي الله عنهم ، والتصريح بالظن يجنب
المخاطبين الخلط بين السنة التشريعية وغير التشريعية .
يقول المعلمي رحمه الله : " قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة : ( ما أظن يغني
ذلك شيئاً ) إخبار عن ظنه ، وكذلك كان ظنه ، فالخبر صدق قطعاً ، وخطأ الظن ليس
كذباً ، وفي معناه قوله في حديث رافع : ( لعلكم )، وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما
في رواية حماد ، لأن حماداً كان يخطئ ، وقوله في حديث طلحة ( فإني لن أكذب على الله
) فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ ؛ لأن السياق في احتمال الخطأ ،
وامتناعه عمداً معلوم من باب أولى ، بل كان معلوماً عندهم قطعاً " انتهى من "
الأنوار الكاشفة " (ص29) .
ثالثا :
لا يتعارض الحديث مع قوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) النجم/3-4. لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في
حادثة تأبير النخل صرح بأنه كان ظنا وتقديرا منه على حسب ما يعلمه من أمور الدنيا ،
فأي حديث بعده يرد من غير تصريح بكلمة الظن وما يدل عليها داخل في عموم الآية ،
ويجب التسليم به على أنه وحي وتشريع إلا لقرينة صارفة .
يقول الطحاوي رحمه الله :
" لم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إخبارا عن وحي , وإنما كان منه على قول غير
معقول ظاهر [ يعني : أنه خبر عن أمر حسي مشاهد للناس ] مما يتساوى فيه الناس في
القول , ثم يختلفون فيتبين ذوو العلم به عمن سواهم من غير أهل العلم به , ولم يكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعاني ذلك ، ولا من بلد يعانيه أهله ; لأنه
صلى الله عليه وسلم إنما بلده مكة ، ولم تكن دار نخل يومئذ , وإنما كان النخل فيما
سواها من المدينة التي صار إليها صلى الله عليه وسلم , وكان القول في الأمر الذي
قال على الظن به " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (4/425) .
ويقول الإمام النووي رحمه الله :
" قال العلماء : ولم يكن هذا القول خبرا ، وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات
، قالوا : ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره ، فلا يمتنع وقوع
مثل هذا ، ولا نقص في ذلك " انتهى من " شرح مسلم " (15/116) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله :
" لم ينههم عن التلقيح ، لكنهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم ، كما غلط من غلط في ظنه أن
(الخيط الأبيض) و(الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود" انتهى من " مجموع الفتاوى
" (18/12) .
والله أعلم .
تعليق