الحمد لله.
إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط ، ثم طلقها لسبب آخر ، ثم أرجعها إلى عصمته ، فهل يبقى تعليق الطلاق على الشرط السابق قائما ، بحيث إذا تحقق الشرط وقع الطلاق ، أم هو تعليق ملغى بما تم بعده من طلاق وبينونة وإرجاع .
في المسألة خلاف بين الفقهاء ، تبعا للتفصيل الآتي :
أولا
إذا أرجعها قبل انتهاء عدتها ، فقد اتفق الفقهاء على بقاء حكم التعليق بالشرط السابق ، فإذا تحقق وقع الطلاق من جديد ؛ وذلك لأن المرأة في عدتها الرجعية في حكم الزوجة في كثير من الأمور ، كالميراث والنفقة ونحو ذلك ، فيبقى حكم تعليق الطلاق أيضا .
ثانيا
أما إذا انتهت عدتها فبانت ، ثم عقد عليها عقدا جديدا ، كأن قال لها مثلا : إذا سافرت خارج البلد فأنت طالق ، ولم تسافر ، ثم طلقها لسبب آخر ، فانتهت عدتها ، ثم تزوجها مرة أخرى بعقد جديد ، فهل تطلق إذا سافرت بعد ذلك ، أم إن الطلاق والبينونة السابقة تَهدِم وتُلغي الشرط المعلق عليه الطلاق ، للعلماء قولان في المسألة :
القول الأول :
هدم الشرط السابق وانحلال اليمين بمجرد البينونة ، وأنه إذا تحقق مرة أخرى بعد العقد الجديد لم يقع الطلاق ، سواء سبق وأن تحقق الشرط أثناء فترة البينونة الصغرى ، أي قبل العقد الجديد وبعد انتهاء العدة ، أم لم يتحقق ، ففي جميع الأحوال ترجع الزوجة إلى زوجها بالعقد الجديد وقد انهدمت الشروط السابقة ، وهذا مذهب الشافعية ، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في حالة عدم وقوع الشرط حال البينونة ، وعزاه لاختيار ابن تيمية ، ولكن لم نقف عليه .
يقول العلامة المحلي الشافعي رحمه الله :
" لو علقه بدخول مثلا ، فبانت بطلاق ... ، ثم نكحها ، ثم دخلت ، لم يقع إن كانت دخلت في البينونة ؛ لانحلال اليمين بالدخول فيها ، وكذا لا يقع إن لم تدخل في البينونة في الأظهر ؛ لارتفاع النكاح الذي علق فيه " انتهى من " شرح المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة " (3/336)، وانظر " مغني المحتاج " (4/476) و"حاشية البجيرمي على الخطيب" (4/10) .
القول الثاني :
لا ينهدم الشرط السابق ، بل إذا تحقق مرة أخرى بعد العقد الجديد وقع الطلاق ، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة .
جاء في " رد المحتار على الدر المختار " (3/348) من كتب الحنفية :
" لو علق الثلاث أو ما دونها بدخول الدار ، ثم نجز الثلاث ، ثم نكحها بعد التحليل ، بطل التعليق ، فلا يقع بدخولها شيء ، ولو كان نجز ما دونها ، لم يبطل ، فيقع المعلق كله ؛ لأنه لم يزل الحل بتنجيز ما دون الثلاث ، وإن زال الملك ، فيقع المعلق كله ؛ لأن بطلان التعليق بزوال الحل ، ولم يزل ، فيبقى التعليق ، فإذا وجد المعلق عليه - وهو دخول الدار - يقع المعلق وهو الثلاث " انتهى باختصار .
ويقول الشيخ الدردير المالكي رحمه الله :
" لو نكحها بعد البينونة ففعلته بعد نكاحها حنث ، سواء فعلته حال البينونة أيضا أم لا ، مطلقا قبل زوج أو بعده ؛ لأن نكاح الأجنبي لا يهدم العصمة السابقة " انتهى باختصار.
وعلق عليه الشيخ الصاوي رحمه الله بقوله :
" هذا خلاف مذهب الشافعي ، فإن مذهبه إذا قال الرجل لزوجته : إن فعلت أنا أو أنت كذا فأنت طالق ثلاثا ، ثم خالعها انحلت يمينه ، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك فلا يلزمه شيء ، بقي من العصمة فيها شيء أم لا ، وهي فسحة عظيمة يجوز التقليد فيها " انتهى من " حاشية الصاوي على الشرح الصغير " (2/ 557) .
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" إن علق طلاقها بصفة كدخول الدار ، ثم أبانها ، فوجدت الصفة حال بينونتها ، ثم نكحها ، أي عقد عليها بعد وجود الصفة ، فوجدت الصفة بعد النكاح ، طلقت ، وكذا لو حلف بالطلاق ثم بانت ، ثم عادت الزوجية ، ووجد المحلوف عليه ، فتطلق ، لوجود الصفة ، ولا تنحل بفعلها حال البينونة ، ولو كانت الأداة لا تقتضي التكرار ، لأنها لا تنحل إلا على وجه يحنث به ؛ لأن اليمين حل وعقد ، والعقد يفتقر إلى الملك ، فكذا الحل والحنث لا يحصل بفعل الصفة حال البينونة ، فلا تنحل اليمين به " انتهى من " الروض المربع مع حاشية ابن قاسم " (6/479-480)، وانظر " الإنصاف " (8/423) حيث قال : " نص عليه ، وهو المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب... ويتخرج أن لا تطلق ، بناء على الرواية في العتق " انتهى.
ولعل القول الأول أولى بالأخذ والقبول ؛ للأسباب الآتية :
1. أنه أقرب إلى المعقول ؛ إذ من المستبعد أن تنقطع آثار النكاح بالبينونة وانقضاء العدة ، ثم يبقى تعليق الطلاق على الشرط نافذا .
2. أنه أيسر على الناس ، وأقرب إلى تيسير مخرج في حالات الحرج والمشقة ، وأبعد لهم من التلاعب بالطلاق والخلع على وجه لم يشرعه الشارع ، لأجل التحيل على حل الطلاق المعلق ، كما نبه على ذلك ابن القيم في " إعلام الموقعين " (3/218)
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إن قال : إن كلمت زيدا فأنت طالق ، ثم طلقها وبانت منه ، ثم تزوجها قبل أن تكلم زيدا ، ثم كلمت زيدا بعد التزويج ، فعلى المذهب وغير المذهب تطلق ؛ لأن يمينه لم تنحل ، فالصفة لم توجد فتطلق بكل حال .
وعند شيخ الإسلام في هذه المسألة أنها لا تطلق ؛ لأن الظاهر أنه أراد وقوع الصفة في النكاح الأول الذي علق عليه ، وفي الحقيقة أنك إذا تدبرت الأمر وجدت أن هذا القول أرجح من غيره ؛ لأن الظاهر من هذا الزوج أنه لم يطرأ على باله أن هذا التعليق يشمل النكاح الجديد ، اللهم إلا إذا كان علقها على صفة يريد ألا تتصف بها مطلقا ، فهذا قد يقال : إنها تعود الصفة " انتهى من " الشرح الممتع " (12/495-496) ، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الخلاف في المسألة ، ولم ينص على الترجيح ، ينظر " مجموع الفتاوى " (33/245-246)، وكذا نقله المرداوي في " الإنصاف " (8/424) ولم يجعله اختيارا للشيخ تقي الدين .
ثالثا
أما إذا وقعت البينونة الكبرى بين الزوجين ، فتزوجت برجل آخر ودخل بها دخولا صحيحا ، ثم طلقها ورجعت إلى زوجها الأول ، فإنها ترجع إليه بطلقات جديدة ، وتلغى جميع الطلقات السابقة وجميع الشروط المعلق عليها طلاق سابقا ، وذلك باتفاق الفقهاء .
قال ابن المنذر رحمه الله :
" أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار ، فطلقها ثلاثا ، ثم نكحت غيره ، ثم نكحها الحالف ، ثم دخلت الدار ، أنه لا يقع عليها الطلاق " انتهى من " المغني " لابن قدامة (7/361) .
وهذا كله مع مراعاة ما اخترناه في موقعنا سابقا من أن الطلاق المعلق لا بد من النظر فيه إلى نية المطلق ، إذا قصد التهديد والوعيد ولا يفضل فراق زوجته على تحقق شرطه ، فلا يقع طلاقه ، ولا يرد فيه التفصيل السابق كله .
أما إذا قصد إيقاع الطلاق فعلا إذا تحقق الشرط ، ويفضل فراق زوجته على تحقق ما علق عليه ، فهذا يرد فيه الكلام السابق كله .
والله أعلم .
تعليق