الحمد لله.
الأصل المتقرر في الشرع أن طلاق المكره لا يقع لما رواه ابن ماجة (2043) عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) . صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " أفتى الصحابة بعدم وقوع طلاق المكره ، وإقراره ، فصح عن عمر أن رجلاً تدلى بحبل ليشتار عسلاً [ أي ليأخذ عسلا من الجبل] فأتت امرأته فقالت : لأقطعن الحبل ، أو لَتُطَلِّقِنِّي ، فناشدها الله ، فأبت فطلقها ، فأتى عمر فذكر له ذلك فقال له ارجع إلى امرأتك ؛ فإن هذا ليس بطلاق . وحكي عدم الوقوع عن علي وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم " انتهى من "زاد المعاد" (5/208).
وقد سبق بيان حكم طلاق المكره في الفتوى رقم : (99645).
وأما بخصوص مسألتك هذه ففيها تفصيل :
فإن كان قد غلب على ظنك أن من هددوك قادرون على فعل ما هددوك به , وأنهم سينفذون تهديدهم , وغلب على ظنك أنك ستدخل السجن ، أو سيتم تجريسك وفضيحتك بذلك ؛ وكنت مع ذلك عاجزا عن دفع هذا الأذى عن نفسك : فهذا يعتبر من الإكراه , وعليه فلا يقع الطلاق بذلك:
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (28303) عن عمر رضي الله عنه قال : " ليس الرجل بأمين على نفسه إن أَجَعْتَه ، أو أخَفْته ، أو حبسته " انتهى .
وقال مطرف : " وسمعنا مالكا يقول: السجن إكراه ، والقيد إكراه " .
انتهى من " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك " (2 / 56).
بل قد نص فريق من أهل العلم على أن الإكراه على الطلاق يحصل لبعض الناس بما دون السجن ؛ فيحصل مثلا بالتهديد بإذهاب الجاه لذوي الهيئات والمروءات :
جاء في " كشف الأسرار شرح أصول البزدوي " (4 / 385) " أما ما يئول إلى إذهاب الجاه ، مثل أن تقول للمحتشم [ = إنسان محترم ] : لأُسَوِّدن وجهك ، أو لأطوفن بك في البلد ، أو نحو ذلك ، أو لأتلفن مالك : فلا يكون ذلك إكراها إذا كان يكرهه على قتل أو قطع , وإن كان يكرهه على إتلاف مال ، أو على طلاق أو عتاق : فهو إكراه ، على قول بعض أصحابنا " انتهى.
أما إن كان قد غلب على ظنك أنهم غير قادرين على فعل ما هددوك به ، أو أنهم قادرون ولكنهم لن يفعلوا مايهددونك به ، أو سيفعلونه ولكن لن يترتب عليه مقصودهم من سجنك ، أو فضيحتك ، إما لأنهم غير قادرين على إثبات ذلك عليك في عادة بلدك ، أو لأن عندك من الحجة ، أو السلطة ما تدفع به عن نفسك : فهذا ليس بإكراه , لانتفاء شروط الإكراه التي ذكرها أهل العلم .
جاء في " فتح الباري " لابن حجر (12 / 311):" الإكراه هو إلزام الغير بما لا يريده , وشروط الإكراه أربعة , الأول: أن يكون فاعله قادرا على إيقاع ما يهدد به ، والمأمور عاجزا عن الدفع ولو بالفرار , الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع : أوقع به ذلك , الثالث: أن يكون ما هدده به فوريا , فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غدا ، لا يعد مكرها ، ويستثنى ما إذا ذكر زمنا قريبا جدا ، أو جرت العادة بأنه لا يخلف , الرابع: أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره " انتهى .
وجاء في " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " (7 / 176) : " وأما شرائط الإكراه فنوعان: نوع يرجع إلى المكرِه ونوع يرجع إلى المكره .(أما) الذي يرجع إلى المكرِه فهو أن يكون قادرا على تحقيق ما أوعد ؛ لأن الضرورة لا تتحقق إلا عند القدرة ......(وأما) النوع الذي يرجع إلى المكرَه فهو أن يقع في غالب رأيه ، وأكثر ظنه : أنه لو لم يجب إلى ما دعي إليه ، تحقق ما أوعد به ؛ لأن غالب الرأي حجة ، خصوصا عند تعذر الوصول إلى اليقين ، حتى إنه لو كان في أكثر رأي المكرَه ، أن المكرِه لا يحقق ما أوعده : لا يثبت حكم الإكراه شرعا" انتهى .
وفي حال عدم تحقق شروط الإكراه المعتبر شرعا : فإن الطلاق يقع ، وتصير زوجتك قد طلقت منك طلقة , ويحق لك ارتجاعها ما دامت في عدتها ، إن كانت هذه هي التطليقة الأولى أو الثانية , أما إن كانت التطليقة الثالثة فإنها تكون قد بانت منك بينونة كبرى , ولا تحل لك إلا بعد أن تتزوج زوجا غيرك ، زواج رغبة لا زواج تحليل ثم يطلقها ، أو يموت عنها ، وتنتهي عدتها منه .
مع التنبيه على أنه لا يشترط في وقوع الطلاق أن يسجل لدى المأذون أو المحكمة ، كما بيناه في الفتوى رقم : (169624) .
كما لا يشترط في إيقاعه شهادة الشهود , وقد حُكي الإجماع على أنه لا يشترط الإشهاد على الطلاق , قال الشوكاني رحمه الله في مسألة الإشهاد على الرجعة : " ومن الأدلة على عدم الوجوب : أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق ، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان ، والرجعة قرينته ، فلا يجب فيها ، كما لا يجب فيه " .
انتهى من "نيل الأوطار" (6/ 300) .
وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على الطلاق والرجعة في قوله تعالى : ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) الطلاق/2 ، وهذا الأمر للندب والاستحباب عند جمهور الفقهاء , ويراجع الفتوى رقم : (119459).
والله أعلم.
تعليق