الحمد لله.
الواجب على الأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة أن يجتهدوا في عمارة مساجدهم ، العمارة المادية والمعنوية ، وأن يجتهدوا في تثبيت هويتهم والتمسك بعقيدتهم ، وأول ذلك وأهمه أن تكون أرواحهم معلقة ببيوت الله تعالى ، وأن لا يكون وضع الأعلام عليها من قبل الأجهزة الرسمية سببا في هجرها والقطيعة معها ، وذلك لأسباب كثيرة قوية ، نذكر منها :
أولا :
المساجد والمراكز الإسلامية هي مشعل النور الذي ينبغي أن يشع في ظلام الكفر والشرك في تلك البلاد ، وهي المحور الذي ترتكز عليه الجاليات الإسلامية هناك ، ويؤوب إليه أبناؤها وبناتها طوال العام ، ليبقى المثبت الأول والأهم للهوية الإسلامية ، والشخصية المسلمة ، فيصونها عن الذوبان في بيئة مغرياتها قادرة على إحداث التغيير على المستوى الشخصي والجماعي ، ولا يقف في وجهها إلا إيمان راسخ تعززه مؤسسة المسجد . فمثل هذه المصلحة أعظم بمراحل من مفسدة تعليق عَلَمٍ على المبنى .
ثانيا :
ثم إن اتخاذ الأعلام ليس محرما في نفسه ، فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم راية في جهاده كعادة العرب في ذلك الزمان ، واتخذ الخلفاء من بعده رايات متنوعة ترمز لدولهم وجيوشهم ، وأصبحت الأعلام اليوم عادة ضرورية بين الدول ، تنص عليها الدساتير ، وتنظمها القوانين والأعراف الدولية ، فالأصل أنه لا حرج في اتخاذ الأعلام ابتداء ، كما لا حرج في اعتراف المسلم بها - سواء كان موطنه الأم إسلاميا أم غير إسلامي -، ما لم يشتمل العَلَم على رموز دينية كالصليب مثلا ، وما لم يكن رمزا على انتماء ديني لإحدى ملل الكفر .
والمحذور إنما هو رفع المسلم أعلام الدول الكافرة على سبيل الذوبان والتبعية الممسوخة ، كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (126602).
والمحذور أيضا هو جعل رابطة العَلَم فوق رابطة الإسلام ، والانتماء إلى مفاصل الدولة الحديثة فوق الانتماء إلى عقيدة الإسلام وشريعته ، بحيث تقدم مقتضيات الانتماء للعَلَم على طاعة الله ورسوله ، فهنا يقع الفرد في المحذور ، ولكنه كما ترى محذور متعلق بالأفراد ، يتفاوت بحسب تفاوت إيمانهم ومعتقداتهم ، وليس متعلقا بالعَلَم نفسه ، ولا بالفكرة ذاتها ، فلا ينبغي الخلط بين الأمرين ، فهو مزلق خطير ، وقعت فيه الكثير من التيارات المتشددة ، الأمر الذي أدى بهم إلى تحريم الانتماء إلى أية دولة ، إسلامية أم غير إسلامية ، وتمزيق جوازات السفر التي يحملونها ، ثم القطيعة مع واقعهم ومجتمعهم ، بل العداوة نفسها ؛ والسبب في ذلك وهم التناقض بين الانتماء إلى الإسلام ، والانتماء إلى الوطن ورموزه ، وكذلك وهم التلازم بين الاعتراف بالدول ورموزها ، وبين الرضا بما فيها من باطل مخالف للشريعة .
والحقيقة أنه لا تناقض أبدا بين الفكرتين ، بل دائرة الانتماء إلى الأوطان منضوية تحت الدائرة الأشمل والأرحب ، وهي عقيدة الإسلام وشريعته . وأيضا لا تلازم بين الاعتراف بأعلام الدول ، والرضا بتفاصيل أحوالها ، فالمسلم يعرف المعروف ، وينكر المنكر ، وانتسابه لوطنه لا يعني بأي حال من الأحوال إقرار جميع ما فيه من منكر وباطل .
ثالثا :
ثم على فرض تحريم رفع أعلام الدول الكافرة تحريما مطلقا ، فذلك لا يستلزم تحريم الصلاة في المسجد الذي رفعت فيه ، فالصلاة لها شروطها وأركانها الخاصة ، ولم يقل أحد من الفقهاء بتأثير رفع عَلَم أو راية معينة على صحة الصلاة نفسها ، بل ذهب أكثر الفقهاء إلى أن المسلم إن صلى داخل الكنيسة فلا إثم عليه ، وإنما وقع في الكراهة ، رغم ما فيها من صور وتماثيل . وقال بعض الفقهاء بالتحريم ، ولكن حيث لم تشتمل على صور وتماثيل وصلبان : فلا بأس في الصلاة فيها اتفاقا . ينظر في موقعنا الفتوى رقم : (147007) .
فمن باب أولى أن يقال بجواز الصلاة في المسجد الذي رفعت فوقه أعلام دول غير إسلامية ، فالأعلام قطع قماش ملونة ، والتي تشتمل على الصلبان منها قليلة ، وإنما ترفع خارج بناء المسجد .
هذا ، مع أننا لا نرى مشروعية رفع أعلام تلك الدول ، ولو كانت دولا إسلامية عند السعة ، إلا في حال الإلزام بذلك ، وإكراه القائمين على المسجد عليه : فلا حرج فيه إن شاء الله .
وللمزيد ينظر الفتوى رقم : (201134).
والله أعلم .
تعليق