الحمد لله.
لا نعتقد – نحن المسلمين – أن ثمة تعارضا بين القرآن الكريم ، وبين التوراة والإنجيل الأصليين ؛ لأننا نؤمن أنها كلها كتب سماوية نزلت من عند الله سبحانه ، فصدرت عن مشكاة واحدة ، وما كان حاله كذلك لا يمكن أن يتعارض أو يتناقض ، كما قال سبحانه وتعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/82 ، وقد سمى الله عز وجل القرآن الكريم ( مصدقا ) لما سبق من الكتب ، والمصدِّق لا يتعارض ولا يتناقض ، قال تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ) آل عمران/3-4 ، وقال عز وجل : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة/48.
وأما ما نراه اليوم من مخالفات في نسخ التوراة والإنجيل المعروفة بين يدي الناس فسببه واضح وظاهر ، وهو وقوع التحريف والتبديل في هذين الكتابين ، بالنقص والزيادة والتغيير ، فضلا عن عدم الوثوق بالأصول والوثائق التي نقلتهما إلى عصرنا الحديث ، الأمر الذي يفسر أي اختلاف يراه الباحثون والدارسون بين هذين الكتابين ، وبين القرآن الكريم الذي نقل إلينا نقلا متواترا قطعيا بشهادة المؤمنين والكافرين .
وللتوسع في بيان هذا الأمر يمكنكم مراجعة الفتوى رقم: (186196).
ومع ذلك نقول : إن بلوغ إبراهيم عليه السلام أرض مكة المكرمة – بل وبناءه البيت الحرام - من الحوادث التاريخية التي شهدت بها التوراة وغيرها من كتب التاريخ القديم . ولا ننكر وقوع الاختلاف في تفسير تلك النصوص التوراتية وغيرها ، وأن السياق فيها محتمل ، وإنما مقصدنا إثبات وجود الإشارات ، واحتمال السياق لتناسق القصة وارد أيضا ، ثم بعد ذلك يترك الأمر إلى علم النقد النصي للعهد القديم ، للجزم بحقيقة المقال . فمن تلك الإشارات :
أولا :
جاء في " سفر التكوين " (الإصحاح/16، العدد/7) قوله – بعد ذكر قصة دخول إبراهيم على هاجر وحملها منه ثم شكاية ساري (سارة) منها -: " فعذبتها ساري حتى هربت من بين يديها . فوجدها مَلاك الله على عين ماء في البرية ، على العين التي في طريق الحجاز . فقال : يا هاجر أمة ساري ! من أين جئت وإلى أين تمضين ؟ قالت : من بين يدي ساري أنا هاربة... فنادت باسم الله المخاطب لها : أنت القادر الرُّئِي ؛ لأنها قالت : إني رأيت ههنا رحمتك بعد رؤيتي الشقاء ، لذلك سميت البئر بئر الحي الرحيم هوذا ، هي بين رقيم وبين يرد ".
انتهى (ص/255) .
فانظر كيف ورد اسم ( الحجاز ) ، وخروج هاجر إليها ، ثم بعد ذلك نعمة البئر الحي من الله سبحانه وتعالى ، الذي هو بئر زمزم .
ثانيا :
جاء في " سفر التكوين " (الإصحاح/30، العدد/1-18) قوله : " فصعد أبرام من مصر هو وزوجته وكل ماله ولوط معه إلى القبلة ... فمضى في مراحله من القبلة إلى أيل ، إلى الموضع الذي كان فيه مضربه في الابتداء ، بين بيت أيل وبيت العي ، إلى موضع المذبح الذي صنعه ثم في الابتداء ، فدعا ثم أبرام باسم الله ... فخيم أبرام مرحلة مرحلة إلى أن جاء وأقام في أرضى ممرى الذي في حبري ، وبنى مذبحا لله " انتهى من (ص/251) .
وجاء أيضا (الإصحاح/20، العدد/1): " ثم رحل من ثم إبراهيم إلى بلد القبلة ، وأقام بين الرقيم وبين الجفار ، وسكن في الخلوص" (ص/260) .
وهذه النصوص نقلناها من التوراة المترجمة إلى العربية على يد (سعيد الفيومي ت943هـ) " أول من ترجم العهد القديم إلى العربية ، كما كتب تفسيراً لمعظم أجزائه "، وهذه التوراة لم نقف عليها سوى في كتاب إدريس اعبيزة ، المسمى " مدخل إلى دراسة التوراة ونقدها مع ترجمتها العربية لسعديا كؤون الفيومي ".
أما في ترجمات التوراة الأخرى المشهورة فجاء فيها بدلا من ( الحجاز ) قوله : ( على العين التي في طريق شور )، وبدلا من ( القبلة ) قوله : ( الجنوب )
وللتوسع يمكن مراجعة كتاب " نبي أرض الجنوب " لجمال الدين الشرقاوي (ص/18-109) وعلى ما ذكره هناك بعض الملاحظات .
ثالثا :
جاء في " سفر التكوين " (الإصحاح/21، العدد/21) قوله عن إسماعيل عليه السلام : " سكن في برية فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر " انتهى، هكذا وجدته في " التوراة السامرية " (ص/61)، وفي ترجمة الفيومي للتوراة (ص/261) .
وفاران – وإن وردت في سياقات كثيرة في التوراة تدل على أنها في فلسطين - إلا أن الإمام القرافي في كتابه " الأجوبة الفاخرة " (ص165) يقول : " فاران مكّة باتفاق أهل الكتاب ". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح " (5/200) : " ليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أنّ فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة ، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم " وقد قال أيضا رحمه الله – عن المنطقة حول جبل حراء في مكة - : " وذلك المكان يسمّى فاران إلى هذا اليوم " انتهى.
وقد قرر عبدالحق فديارتي (ت1978م) في كتابه الشهير " محمد في الأسفار العالمية " (ص70-71) المكتوب باللغة الانجليزية ، ونحن نترجمه هنا بما تيسر " أنه في الترجمة العربية للتوراة السامرية – التي نشرت عام (1851م) – ورد فيها أن ( فاران ) تقع في ( الحجاز )، على الوجه الآتي: " سكن في برية فاران ( حجاز )، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر. وهذه الترجمة استمرت متداولة لوقت طويل ، ولكن عندما نبه المسلمون العالم المسيحي إلى هذه النبوءة ، وأنها بمثابة شهادة على حقيقية هذا النبي الكريم ، تم تعديل الترجمة " انتهى.
رابعا :
وورد في " العهد الجديد " في " المزمور " (84) (5-10) اسم " وادي بكة "، ونحن نورد النص هنا باللغة الانجليزية ، من نسخة الملك جيمس ، حيث جاء فيه :
" Blessed is the man whose strength is in thee; in whose heart are the ways of them
Who passing through the valley of Baca make it a well…For a day in thy courts is better than a thousand"
وترجمة هذا النص هي :
" طوبى لأناس عِزُّهم بك ، طرق بيتك في قلوبهم ، عابرين في وادي (Baca)، يصيرونه ينبوعا... لأن يوما واحدا في ديارك خير من ألف " .
وليس ثمة في الأرض واد اسمه ( بكة ) يشتمل على بيت عبادة وينبوع ماء ( زمزم )، الصلاة فيه أفضل من ألف فيما سواه ، سوى مكة المكرمة .
وبكة أحد أسماء مكة ، ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) آل عمران/96.
غير أن مترجمي ومفسري العهد الجديد حرفوا كلمة (Baca) إلى ( البكاء )، رغم أن الأعلام لا تترجم إلى معانيها ، وإنما تبقى على ألفاظها ، ورغم أنه لا تعرف هذه الكلمة بمعنى البكاء ، ولكن رغبة في إفناء كل إشارة إلى شيء ثابت في القرآن الكريم ، وقع مثل هذا التحريف .
ونقول في الختام : إنه لو لم يرد شيء في العهد القديم عن رحلة إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز، فليس ذلك بدليل على نفي الرحلة أصلا ، فالقاعدة العقلية المعلومة تقول : عدم الذكر ، ليس ذكرا للعدم ؛ بمعنى أن النفي لا بد أن يكون صريحا بصيغة النفي ، وأما عدم الإثبات قد لا يكون بسبب النفي ، بل قد يكون بسبب النقص أو النسيان أو الاختصار أو عدم الحاجة ، أو نحو ذلك من الأغراض ، فلا يجوز لمن يتابع مثلا صحيفة إخبارية معينة ، أن ينفي خبرا قرأه في صحيفة أخرى ، بدعوى أن الصحيفة الأولى لم تذكرها ، ومن فعل ذلك ناقض العقل وخالف المسلمات . وكذلك الشأن في هذه القضية .
فضلا عن أننا لو رحنا نسوق كلام المؤرخين غير المسلمين ، الذين تطرقوا لشؤون الكعبة وحقيقة من بناها ، وقرروا أن إبراهيم عليه السلام أشهر من فعل ذلك في التاريخ ، لطال بنا المقام جدا، ولكن نقتصر على نقل واحد عن أشهر كتب التاريخ المعاصرة ، وهو كتاب " قصة الحضارة " لديورانت مل ، يقع هذا الكتاب في اثنين وأربعين جزءا ، تحدث فيه عن تاريخ معظم الحضارات، ومنها تاريخ الجزيرة العربية ، فكان مما قاله : " بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر " ينظر " قصة الحضارة " (13/18) .
والله أعلم .
تعليق