الحمد لله.
أولاً :
مسألة " نجاسة الدم " من المسائل التي كثر الكلام حولها بين المعاصرين ، حتى كُتبت فيها الرسائل والأبحاث .
والقول الذي عليه عامة العلماء سلفاً وخلفاً : أن الدم المسفوح نجسٌ .
" والمسفوح : الجاري الذي يسيل " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (7/123) .
وهو يشمل : الدم الذي يسيل وينهَمِر من الحيوان في حال الحياة ، أو عند الذبح ، والدم الذي يسيل من الإنسان عند جرحه .
وهذا الدم نجس ، عند جميع العلماء ، ولم يعرف عن أحد من علماء هذه الأمة وسلفها القول بطهارته ، وأول من شهَّر القول بطهارته من المتأخرين : هو الشوكاني ، ثم تبعه صدِّيق حسن خان ، ومن بعدهم الشيخ الألباني في هذا العصر ، ومن ثم عمَّ القول به حتى شاع بين كثير من طلبة العلم .
وقد دل على نجاسة الدم المسفوح : القرآن ، والسنة ، والإجماع .
1- أما القرآن ، فقوله سبحانه وتعالى : ( قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الأنعام/ 145 .
ففي هذه الآية دلالة على أن الدم المسفوح رجس ، والرجس هو النجس .
وقد اعتُرِض على الاستدلال بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن المراد بالرجس في هذه الآية المحرم لا النجس .
قال الشوكاني رحمه الله : " المراد بالرجس هنا الحرام ، كما يفيده سياق الآية والمقصود منها ، فإنها وردت فيما يحرم أكله ، لا فيما هو نجس ... ولا تلازم بين التحريم والنجاسة ، فقد يكون الشيء حراما وهو طاهر " انتهى من " السيل الجرار" (1/26) .
ويجاب عن هذا : بأنه لو حُملت كلمة رجس على أنها تعنى : الحرام ، لكان في الآية تكرارا ، لأن التحريم قد تم بيانه في أول الآية ، وعلى قولهم يكون معنى الآية : ليس فيما أوحي إلي محرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير فإنه محرم .
وقال بعضهم : الرجس في اللغة القذر ، فكلمة (رجس) ، لا تعني أنه نجس ، بل مستقذر .
والجواب عن ذلك : أن كلمة رجس وإن كانت تعني في اللغة القذر ، لكن المراد بها هنا المعنى الشرعي وهو الحكم بالنجاسة ، فإن الأصل في كلام الشارع حمله على المعنى الشرعي لا اللغوي .
قال الإمام الطبري رحمه الله :
" الرجس : النجس والنتن " انتهى من " جامع البيان " (8/53) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
" والرجس هو : القذر والنجس الذي يجب اجتنابه " انتهى من " شرح العمدة " (1/109) .
الاعتراض الثاني : أن الضمير في قوله : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) يعود إلى الخنزير فقط .
قال الشوكاني رحمه الله : " ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى : ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ، لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح ، ولكنه لم يَرد ما يفيد ذلك ، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل ، أو إلى الأقرب ، والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير ؛ لإفراد الضمير " انتهى من " الدراري المضية " (1/32) .
والجواب عن ذلك : أن الضمير وإن كان في عوده خلاف بين المفسرين ، إلا أن رجوعه للجميع هو الأقرب والأرجح .
قال ابن أبي العز الحنفي :
" قوله : ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) ... يعود الضمير إلى المذكور كله ، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير ؛ فإن الأصل : قل لا أجد فيما أوحي إليّ شيئاً محرماً ، فحذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، ثم قال : إلا كذا وكذا ، فإن هذا المذكور كله رجس ، وإعادة الضمير إلى بعض المذكور فيه نظر " انتهى من " تفسير الإمام ابن أبي العز " (2/13) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" والأظهر أن يعود إلى جميع ما قبله ، وأنّ إفراد الضّمير على تأويله بالمذكور ، أي فإنّ المذكور رجس " انتهى من " التحرير والتنوير" (8/138) .
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" فإن قوله ( محرماً ) صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : شيئاً محرماً ، والضمير المستتر في ( يكون ) يعود على ذلك الشيء المحرم ، أي : إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم ميتة.. إلخ .
والضمير البارز في قوله ( فإنه ) يعود أيضاً على ذلك الشيء المحرم ، أي : فإن ذلك الشيء المحرم رجس .
وعلى هذا فيكون في الآية الكريمة بيان الحكم وعلته في هذه الأشياء الثلاثة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير .
ومن قصر الضمير في قوله (فإنه) على لحم الخنزير ، معللاً ذلك بأنه أقرب مذكور فقصره قاصر ، وذلك لأنه يؤدي إلى تشتيت الضمائر ، وإلى القصور في البيان القرآني حيث يكون ذاكرا للجميع ( الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ) حكما واحدا ، ثم يعلل لواحد منها فقط " انتهى من " الشرح الممتع " (15/9) .
وقال رحمه الله – أيضاً - :
" من قصره على لحم الخنزير معللاً بأنه لو كان الضمير للثلاثة لقال : فإنها أو فإنهن ، فجوابه : أنَّا لا نقول إن الضمير للثلاثة ، بل هو عائد إلى الضمير المستتر في ـ يكون ـ المخبر عنه بأحد الأمور الثلاثة " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (11/264) .
وقال رحمه الله – أيضا- : وقال: " ولو تأملت الآية وجدت أن هذا هو المتعين" .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب " .
2- ومن السنة : حديث أسماء الذي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغسل دم الحيض .
، وقد بوب عليه البخاري ( باب غسل الدم ) ، والحديث وإن جاء في دم الحيض ، إلا أنه لا فرق بين دم وآخر ، فالدم كله جنس واحد ، من أي محلٍّ خرج .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
" وفي هذا دَلِيلٌ على أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ نَجَسٌ ، وَكَذَا كُلُّ دَمٍ غَيْرُهُ " انتهى من " الأم " (1/67) .
وكذلك حديث المستحاضة فاطمة بنت أبي حبيش ، وقد أمرها النبي بغسل دم الاستحاضة ، وقال لها : ( فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ) رواه البخاري (221) ، ومسلم (501) .
وهذا يدل على نجاسة الدم من وجهين :
* أن لفظة الدم جاءت معرفة بالألف واللام ، فتشمل كل دم ، وأي دم كان .
قال ابن حزم رحمه الله : " وَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَوْعِ الدَّمِ ، وَلَا نُبَالِي بِالسُّؤَالِ إذَا كَانَ جَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَرْدُودٍ بِضَمِيرٍ إلَى السُّؤَالِ" انتهى من " المحلى بالآثار " (1/115) .
ومعنى كلامه أن سؤال المرأة كان عن دم الاستحاضة ، لكن جوابه صلى الله عليه وسلم كان عاماً ، ولم يقل لها : اغسليه ، أو : اغسلي دم الحيض أو الاستحاضة ، ولكن أتى بلفظ عام ، ( فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ) ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
* أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دم الاستحاضة دم عرق ، والدم الخارج من سائر بدن الإنسان والحيوان دم عرق كذلك ، فيكون حكمه حكم دم الاستحاضة .
3- وأما الإجماع ، فقد نقله جمهرة من العلماء من مختلف المذاهب :
وعلى رأسهم الإمام أحمد ، فقد سئل الإمام أحمد عن الدم ، وقيل له : الدم والقيح عندك سواء ؟
فقال رحمه الله : " الدم لم يختلف الناس فيه ، والقيح قد اختلف الناس فيه " انتهى من " شرح عمدة الفقه " لابن تيمية (1/105) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله :
" وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس " انتهى من " التمهيد " (22/230) .
وقال رحمه الله – أيضاً - :
" لا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس " انتهى من "الاستذكار" (1/291) .
وقال ابن حزم الظاهري : " وَاتَّفَقُوا على أَن الْكثير من الدَّم ، أَي دم كَانَ ، حاشا دم السّمك وَمَا لَا يسيل دَمه : نجس " انتهى من " مراتب الإجماع " (ص/19) .
وأقره شيخ الإسلام في نقد مراتب الإجماع ولم يتعقبه بشيء .
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله :
" اتفق العلماء على أن الدم حرام ، نجس ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به " انتهى من " أحكام القرآن " (1/79) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" اتفق العلماء على أن الدم حرام ، نجس " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (2/221) .
وكذلك نقل الإجماع : ابن رشد في " بداية المجتهد " (1/79) .
وقال النووي رحمه الله :
" الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة ، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين ، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال : هو طاهر ، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم ، لا سيما في المسائل الفقهيات " انتهى من " المجموع " (2/576) .
وقال القرافي رحمه الله :
" والدم المسفوح نجس إجماعاً " انتهى من " الذخيرة " (1/185) .
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني :
" والدم نجس اتفاقاً " انتهى من " فتح الباري " (1/352) .
وقال بدر الدين العيني رحمه الله :
" الدم نجس بالإجماع " انتهى من " عمدة القاري " (5/59) .
وقال شمس الدين الزركشي الحنبلي رحمه الله :
" الخارج من الإنسان ثلاثة أقسام : طاهر بلا نزاع ، وهو : الدمع ، والعرق ، والريق ، والمخاط ، والبصاق ، ونجس بلا نزاع ، وهو: البول ، والغائط ، والودي ، والدم وما في معناه ، ومختلف فيه : وهو المني والمذي " انتهى من " شرح الزركشي على مختصر الخرقي " (2/40) .
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" وَالدَّمُ نَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ " انتهى من " أضواء البيان" (2/399) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فإن الدم المسفوح لم نعلم قائلاً بطهارته " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (11/261) .
فالأَوْلى في مقتضى الشرع والعقل اتباع هذا القول الذي تواتر العلماء على نقله وتقريره ، فهو قول مبني على النص الصريح للكتاب والسنة .
وتقرير الشوكاني ومن تبعه في طهارة الدم ، قول مرجوح ، مخالف للدليل والإجماع ، فلا ينبغي جعله مثارا للحيرة والاضطراب ، كما لا يجوز الظن بأن العلماء يجمعون في مسألة ، ولا يكون لهم فيه دليل صحيح صريح ، كما يظن بعض طلبة العلم في مسألة نجاسة الدم وغيرها من المسائل .
ويلزم من يدعي أن الإجماع غير صحيح : أن يثبت وجود مخالف من السلف - ولو واحدا - ، لينتقض الإجماع .
ثانياً :
من أبرز ما يستدل به من يقول بطهارة الدم من المتأخرين : قصة الصحابي الذي جُرح وهو يحرس الصحابة في الشعب ، واستمر في صلاته .
وقد رواها الإمام أحمد في " مسنده " (14177) ، وأبو داود في " سننه " (170) ، والحديث حسنه النووي والشيخ الألباني .
قالوا : فلو كان الدم نجساً لقطع صلاته ، فاستمراره بالصلاة مع وجود الدم ، دليل على أن الدم طاهر .
والجواب عن هذا الحديث من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث يرويه عن جابر بن عبد الله ابنه : " عَقيل بن جابر" ، وهو مجهول .
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : " سمعت أبي يقول : عقيل بن جابر ، لا أعرفه " انتهى من " الجرح والتعديل " (6/218) .
وقال الذهبي رحمه الله : " فِيهِ جَهَالَة " انتهى من " المغني في الضعفاء " (2/438) .
وكذا قال ابن عبد الهادي رحمه الله : " وعَقيل بن جابر : فيه جهالةٌ " انتهى من "تنقيح التحقيق" (1/292) .
ولذلك ذكر هذا الحديث البخاري في صحيحه معلقاً ، بصيغة التمريض .
الثاني : أن هذه الحالة خارج محل النزاع ، لأن هذا الصحابي معذور ، والمعذور لا يضره جريان دمه كما في سلس البول والاستحاضة .
فالدم النازل من هذا الصحابي ، هو دم نزيف ، والنزيف يعد رخصةً تبيح لصاحبها أن يصلي على حاله ، ولو جرى معه الدم ، لأنه لا يستطيع إيقافه .
ومثله حديث عمر لما طعنه أبو لؤلؤة أكثر من ثلاث طعنات ، " فَصَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا " انتهى من " الموطأ " (74) .
فهذه حالة ضرورة لا يقاس عليها غيرها .
فما دام الدم يسيل بشكلٍ متواصل ولا يمكن وقفه ، فإنه يأخذ حكم من به سَلَس البول أو حكم المستحاضة ، فيصلي ولو قطر البول ولو سال الدم ، ولا يدل ذلك في الحالتين على طهارة البول أو على طهارة الدم .
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله :
" وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ، وَالثَّانِي أَنْ يَجْرِيَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ .
فإِنْ اتَّصَلَ خُرُوجُهُ ، فَعَلَى الْمَجْرُوحِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا ....
وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْ نَجَاسَتِهِ وَدَمِهِ ، فَإِنْ انْبَعَثَ فِي الصَّلَاةِ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِنَجَاسَةِ جِسْمِهِ وَثَوْبِهِ ، فَيَغْسِلْ مَا بِهِ مِنْ الدَّمِ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا " انتهى من " المنتقى " (1/86) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
" إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ ، مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ أَوْ قِيلَ : لَا يَنْقُضُ ، سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ) ، وَقَالَ تَعَالَى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ... وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (21/223) .
ووفق هذا الكلام يفهم قول الحسن البصري : " مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ " ، ذكره البخاري تعليقاً ، ووَصَلَهُ سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحِيح كما قال الحافظ في " الفتح " (1/281) .
فهذا محمول على حال الاضطرار في الحرب .
ويؤيد ذلك أن الحسن البصري رحمه الله : سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَحْتَجِمُ مَاذَا عَلَيْهِ ؟ فقَالَ : " يَغْسِلُ أَثَرَ مَحَاجِمِهِ " انتهى من " مصنف ابن أبي شيبة " (1/47) .
فلو كان الحسن البصري يرى طهارة الدم ، لما أمر بغسل أثر المحاجم من الدماء .
وروى عبد الرزاق الصنعاني في " المصنف " (1/376) عن مَعْمَر قال : " وَكَانَ الْحَسَنُ يَنْصَرِفُ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ الدَّمَ " انتهى .
وعَنِ الْحَسَنِ ، وَمُحَمَّدٍ بن سيرين أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُ الصَّبِيِّ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : " الدَّمُ رِجْسٌ" انتهى من " مصنف ابن أبي شيبة " (5/116) .
وهذه الآثار تدل دلالة واضحة على أن الحسن البصري كان يرى نجاسة الدم ، ولذلك لا يمكن أنة نستدل بقوله عن الصحابة بأنهم كانوا يصلون في جراحاتهم على طهارة الدم .
قال العيني رحمه الله :
" لَا يلْزم من قَوْله : ( يصلونَ فِي جراحاتهم ) ، أَن يكون الدَّم خَارِجاً وقتئِذٍ ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة لأَجلهَا ؛ بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء ، أَو مربوطة بجبيرة ، ومَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك لا تفْسد صلَاته " انتهى من " عمدة القاري " (3/51) .
ثالثاً :
وأما ما روي عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزَّار قال : صَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ مِنْ جُزُرٍ نَحَرَهَا ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . رواه عبد الرزاق في "المصنف" (459) وصحح إسناده الألباني .
فهذا يجاب عنه من ثلاث وجوه :
الوجه الأول : من حيث ثبوته : ففي سماع يحيى الجزَّار من ابن مسعود نظر ، فقد نفى الأئمة سماعه من علي بن أبي طالب ، وابن مسعود أقدم وفاةً من علي . ينظر : " المراسيل " لابن أبي حاتم (ص/246) .
ولذلك ذكر العُقيلي في " الضعفاء " (4/396) عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ : قَالَ لِي مُحَمَّدٌ [ ابن سيرين ] : إِنِّي أَعْرِضُ حَدِيثِي عَلَيْكَ ، وَعَلَى أَيُّوبَ ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا ، فَمَرَّ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ ، فَقَالَ : أُنْكِرُ هَذَا .
ولذلك بعد أن روى ابن أبي شيبة أثر ابن مسعود ، عقبه بقوله : " حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدُ ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ " انتهى من " مصنف ابن أبي شيبة " (1/344) .
الوجه الثاني : أنه إن صحّ ، محمول على أن الدم الذي أصابه شيء يسير ، والدم اليسير معفوٌّ عنه كما هو معلوم .
الوجه الثالث : أن العلماء فهموا من هذا الأثر أن ابن مسعود يرى أن طهارة الثوب - وإن كانت واجبة - ، لكنها ليست من شروط صحة الصلاة ، ولم يفهموا منه طهارة الدم .
قال ابن المنذر رحمه الله :
" وَأَسْقَطَتْ طَائِفَةٌ غَسْلَ النَّجَاسَاتِ عَنِ الثِّيَابِ ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا فَأَصَابَهُ مِنْ فرْثهَا وَدَمِهَا فَصَلَّى وَلَمْ يَغْسِلْهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ " انتهى من " الأوسط " (2/156) .
وقال الماوردي رحمه الله :
" وَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ ، أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا وَأَصَابَ ثِيَابُهُ مِنْ فَرْثِهَا وَدَمِهَا ، فَقَامَ وَصَلَّى " انتهى من " الحاوي الكبير" (2/240) .
قالَ أَبُو جَعْفَر الطحاوي رحمه الله :
" وَهَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (10/103) .
وقد لخَّص الشيخ ابن عثيمين الإجابة عن جميع الآثار الواردة عن الصحابة في هذا الباب ، فقال رحمه الله : " وأما ما ورد عن بعض الصحابة مما يدل ظاهره على أنه لا يجب غسل الدم والتطهير منه ، فإنه على وجهين :
أحدهما : أن يكون يسيراً يُعفى عنه ، مثل ما يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأساً ، وأنه يدخل أصابعه في أنفه فيخرج عليها الدم فيحته ثم يقوم فيصلي ، ذكر ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه .
[ ومثله ما جاء عن ابن عمر أنه عَصَرَ بَثْرَةً فِي وَجْهِهِ ، فَخَرَجَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ ، فَحَكَّهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح ، وقوله ( شيء من دم ) واضح في الدلالة على أنه شيء يسير ] .
ثانيهما : أن يكون كثيراً لا يمكن التحرز منه ، مثل ما رواه مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب حين طُعن ، صلى وجرحه يثعب دماً ، فإن هذا لا يمكن التحرز منه إذا لو غسل لاستمر يخرج ، فلم يستفد شيئاً ، وكذلك ثوبه لو غيَّره بثوبٍ آخر - إن كان له ثوبٌ آخر- لتلوث الثوب الآخر فلم يستفد من تغييره شيئاً .
فإذا كان الوارد عن الصحابة لا يخرج عن هذين الوجهين ، فإنه لا يمكن إثبات طهارة الدم بمثل ذلك " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (11/266) .
وكذلك قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
" وأما آثار الصحابة فلا تفيد طهارة الدم ، وإنما تدل على العفو عن يسيره ، وعدم نقض الوضوء به ، وأما صلاة عمر وغيره مع جريان دمه ، فإنما هو للضرورة ، وعدم القدرة على إمساكه ، فهو كمن به سلس بول ونحوه ممن حدثه دائم " انتهى من من تعليقه على " شرح الزركشي على مختصر الخرقي " (2/41) .
رابعاً :
يستثنى مما سبق : دم الشهيد ، فما يصيب الشهيد من دمه المسفوح مستثنى من عموم الدماء المسفوحة ؛ للنصوص الواردة في إبقاء دمه عليه وعدم إزالتها .
فدم الشهيد ما دام عليه فهو طاهر ؛ لما رواه النسائي (1975) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ : ( زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ يَدْمَى ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ ) .
فلو كان دم الشهيد نجساً لأمر بإزالته عن بدنه ، فلما أمر بدفنهم بدمائهم دل ذلك على طهارته .
" فَإِنِ انْفَصَل الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا " انتهى من " الموسوعة الفقهية " (40/89) .
والقول بطهارة دم الشهيد هو مذهب الحنفية والحنابلة . ينظر: " البحر الرائق " (1/241) ، و " كشاف القناع " (1/219) ، و " شرح العمدة " لابن تيمية (1/109) .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" جَمِيعَ الدِّمَاءِ نَجِسَةٌ إلا : دم مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة ، ومَا يَبقَى بَعدَ الذبح في الْعُرُوق وَاللَّحْم ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وإلا : دم الشهيدِ عَلَيهِ خَاصَّة " انتهى من " إرشاد أولى البصائر والألباب " (ص/ـ20) .
والله أعلم .
تعليق