الحمد لله.
أولا :
الذي يظهر : أن من قال ذلك من هذه الجماعة ، إنما تأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري (2840) ، ومسلم (1153) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) .
ومعنى " في سبيل الله " : اختلف فيها أهل العلم على قولين :
القول الأول : " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " : أي طاعة لله تعالى وإخلاصا له ورغبة في ثوابه .
وهذا القول هو اختيار الإمام أبو العباس القرطبي ، شارح مسلم ؛ حيث قال رحمه الله تعالى :
" ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي : في طاعة الله ، يعني بذلك : قاصدا به وجه الله تعالى .
وقد قيل فيه : إنه الجهاد في سبيل الله " انتهى من" المفهم " ( 3 / 217 ) .
وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ، قال :
" هذا معناه ، واللَّه أعلم ، في سبيل اللَّه : يعني في طاعة اللَّه ، أي من صام يوماً يبتغي وجه اللَّه والدار الآخرة ، فله هذا الأجر العظيم ، وهو من أسباب بعده من النار ، والسلامة من دخول النار ، والصيام من أفضل الأعمال ، ومن أفضل القرب ، وهو جُنّة للعبد من النار إذا صامه ابتغاء وجه اللَّه ، لا رياءً ولا سمعة ، ولا لمقصود آخر ، بل ابتغاء وجه اللَّه ، فله هذا الأجر العظيم " انتهى من " الإفهام في شرح عمدة الأحكام " ( 1 / 429 – 430 ) .
القول الثاني : " فِي
سَبِيلِ اللَّهِ " : أي في الجهاد ، لأن هذا هو الغالب في إطلاق " سبيل الله" ، في
نصوص الشريعة على الجهاد .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
" إذا أطلق ذكر "سبيل الله" : كان المشار به إلى الجهاد " .
انتهى من " كشف المشكل من حديث الصحيحين " ( 3 / 153 ) .
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى :
" فيه فضيلة الصّيام في سبيل اللّه ، وهو محمول على من لا يتضرّر به ، ولا يفوّت به
حقّا ، ولا يختلّ به قتاله ولا غيره من مهمّات غزوه . ومعناه : المباعدة عن النّار
، والمعافاة منها . والخريف : السّنَة . والمراد : سبعين سنة " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " ( 8 / 33 ) .
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
" قوله " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " : العرف الأكثر فيه : استعماله في الجهاد ، فإذا
حمل عليه : كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين - أعني عبادة الصّوم والجهاد - .
ويحتمل أن يراد بسبيل اللّه : طاعته كيف كانت . ويعبّر بذلك عن صحّة القصد والنّيّة
فيه . والأوّل: أقرب إلى العرف " انتهى من " احكام الأحكام " ( 2 / 36 - 37 ) .
وهذا القول ـ أن المراد به الجهاد ـ : هو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى
:
" الصيام في سبيل الله يعني : الصيام في الجهاد في سبيل الله ؛ لأن الصيام مع
الجهاد فيه مشقه ، فلهذا كان جزاء من صام فيه وهو مجاهد في سبيل الله : أن يباعد
الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " ( 11 / 2 ) .
فالحاصل : أن الصوم " في سبيل الله " محتمل لأحد معنيين : الصوم في الجهاد ، يعني : في قتال الكفار ، أو : من صام طاعة لله ، قاصدا به وجه الله تعالى .
ولعل الأقرب في هذه الفضيلة الخاصة : أنها خاص بحال الصائم في قتال الكفار ، من غير أن يضيع واجبا عليه ، أو يفرط في مقام الجهاد الذي أقامه الله فيه .
ثانيا :
إذا عرف ذلك فإن " في سبيل الله " : ليس هو من الجهاد ، بحسب الاصطلاح الخاص في
الشرع ، وهو قتال الكفار .
لكن لا شك أن من خرج في الدعوة إلى الله تعالى على علم وبصيرة ، متبعا الكتاب
والسنّة في أسلوب دعوته وما يدعو إليه ، مجتهدا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم
في سنته ، والتوقي عن باب البدع والمحدثات ، لا شك أن مثل هذا على خير عظيم ، وهو
قائم بعمل من أجل الأعمال والقربات ، سواء كان قيامه في ذلك بمفرده ، أو مع آخرين
يعينونه على ذلك ، وسواء كان ذلك في بلده ، أو خارجا عن بلده ، وإنما المدار في ذلك
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، والاجتهاد في تبليغ شريعته .
قال الله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فصلت /33 .
فإذا انضاف لهذا النشاط
الدعوي الصوم ، فإنه يكون جامعا لعدة من الخيرات في زمن واحد ، لكنه لا يدخل في
معنى : صيام يوم في سبيل الله ، على القول الذي يرى أن المراد بذلك جهاد الكفار .
وأما على القول الآخر ، وهو أن المراد به : الصيام ، مع حسن القصد ، وإخلاص النية ،
فهذا لا يحتاج أن يشترط فيه : أن يكون ذلك في أثناء قيامه بذلك العمل الدعوي .
وأما الدندنة على أن "الخروج في سيبل الله" بحسب العرف الخاص لجماعة التبليغ
والدعوة" ، هو "الخروج في سبيل الله" الذي ذكر في النصوص الشرعية ، فهو خطأ بين ،
وتأويل باطل للنصوص الشرعية بحسب العرف الخاص والاصطلاح الحادث ، الذي لم يكن
معروفا ، بهذا التنظيم الخاص ، والعرف الخاص ، على عهد الوحي ، وفي زمن النبوة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله
عليه وسلم ، وعادتهم في الكلام ، وإلا حرف الكلم عن مواضعه ، فإن كثيرا من الناس
ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو
رسوله أو الصحابة ، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده
بذلك أهل عادته واصطلاحه ، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك . وهذا واقع
لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم " انتهى من " مجموع
الفتاوى " ( 1 / 243 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
" فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام ، لا فيما خرج من بين شفتيه –
أي من النبي صلى الله عليه وسلم - من الكلام ...
وينضاف إلى ذلك تنزيل كلامه – أي كلام النبي صلى الله عليه وسلم - على الاصطلاحات
التي أحدثها أرباب العلوم من الأصوليين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم ، فإن
لكل من هؤلاء اصطلاحات حادثة في مخاطباتهم وتصانيفهم ، فيجيء من قد ألف تلك
الاصطلاحات الحادثة وسبقت معانيها إلى قلبه فلم يعرف سواها ، فيسمع كلام الشارع ،
فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح ، فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرده
بكلامه ، ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع .
وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه ..." .
انتهى من "مفتاح دار السعادة " ( 3 / 1596 - 1597 ).
وينظر للفائدة : الفتوى رقم : ( 8674 ) .
والله أعلم .
تعليق